[ad_1]
مجلس نيوز | majlis-news
عقدت مجموعة قضايا وطنية، قبل أسابيع، ندوة طرحت فيها قضية الهندسة الاجتماعية Social Engineering، وقد شارك في هذه الندوة نخبة من المختصين والمهتمين، وتردد صداها في المجتمع، وكان بين الذين شاركوا فيها وأسهموا في الكتابة عنها في “الاقتصادية” الزميل المتميز الدكتور عبدالرحمن الطريري. ركزت الندوة على المعنى المتداول عالميا لتعبير الهندسة الاجتماعية، في المجال الرقمي وفضائه السيبراني، نظرا لأهميته المتزايدة، خصوصا بعد كورونا. لكن هذا المعنى في هذا المجال ينحصر، ومع الأسف، بهدف سلبي ومجال ضيق، خلاصته الاحتيال عبر الإنترنت بأساليب اجتماعية. والمقصود بهذا الاحتيال هو إيجاد الوسائل التي تستغل معلومات حول الإنسان، أو هفوات أو أخطاء يقوم بها من أجل اقتناص معلومات خاصة، سعيا إلى النفاذ إلى أصول خاصة، والقيام بأعمال غير مشروعة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الندوة لم تنس أن تبين بوضوح أن تعبير الهندسة الاجتماعية يحمل معاني أوسع من هذا المعنى الضيق، وتحمل هذه المعاني توجهات إيجابية، غير التوجه الذي يحمله المعنى السلبي المرتبط بالفضاء السيبراني.
إذا عدنا إلى ظهور تعبير الهندسة الاجتماعية، الذي قدمناه في مقال سابق، لوجدنا أن ذلك كان عام 1894، حين طرح المهندس الهولندي جي سي فان ماركن Van Marken J. C. فكرة الحاجة إلى المهندس الاجتماعي إلى جانب المهندس التقني، كي يتم أخذ العوامل البشرية في التصميمات التقنية بالشكل المأمول الذي يحتاج إليه الإنسان. وإذا طلب منا اليوم، في إطار المعطيات الاجتماعية الحديثة والمتجددة، أن نعطي مفهوما يحاول أن يحيط بمعنى الهندسة الاجتماعية، فلعلنا نقول، إن لهذا التعبير أبعادا عدة لأنه معني بالفكر الهندسي في الميدان الاجتماعي. فالفكر الهندسي يقضي بتوجيه المصادر المتاحة للاستخدام بما يلائم متطلبات البشر، والميدان الاجتماعي هو عالم الإنسان الفسيح وتعامله مع الآخرين.
يطرح هذا المقال نظرة على المعنى العام للهندسة الاجتماعية، وتتضمن هذه النظرة خمسة أبعاد إيجابية رئيسة، بعيدا عن معنى الاحتيال القائم في المجال الرقمي. ورغم أن هذه الأبعاد تعطي معنى واسع النطاق للهندسة الاجتماعية، إلا أنها لا تدعي الإحاطة بأبعاده كافة. وفي طرح هذه الأبعاد الخمسة للهندسة الاجتماعية، سيتم بيان الهدف الاجتماعي لكل بعد، والوسائل المستخدمة من أجل تحقيق هذا الهدف.
سنبدأ ببعد يستهدف توفير بيئة أفضل لحياة الإنسان ونشاطاته، كما يطرح وسيلته إلى ذلك على أنها الاهتمام بتصميم الأشياء التي يستخدمها الإنسان بطريقة تناسب راحته ومتطلباته، حيث يتمتع في استخدامه لها بالفاعلية والكفاءة والأمان. هذا البعد هو ما يطلق عليه مصطلح الإرجو – نومكس Ergonomics المأخوذ من لغة الإغريق. وقد طرح هذا المصطلح العالم البولندي وجيش جاستربوفسكيWojciech Jarzembowski، عام 1857، في كتاب يحمل آراءه في هذا المجال. لكن هذا المصطلح لم ينتشر عالميا إلا بعد أن ترجم الكتاب إلى الإنجليزية عام 1997، أي بعد ظهوره بأعوام طويلة.
ونأتي إلى بعد آخر للهندسة الاجتماعية هو بعد توخي السلوك المستند إلى المعرفة. ويعتمد هذا البعد على ثلاثية المعرفة Knowledge، والموقف منها Attitude، والسلوك المفترض على أساسها Practice. ويركز هذا البعد على تعميق استيعاب المعرفة وإدراك جوانبها، كي يكون الموقف منها إيجابيا، وكي تستطيع أن تكون عاملا فاعلا في تمكين السلوك المعرفي البعيد عن الهوى، بما يحقق مصلحة صاحب العلاقة، وبما يعود بالنفع على المجتمع.
وننتقل إلى بعد ثالث للهندسة الاجتماعية يهتم بتمكين الإنسان من التحكم ذاتيا بسلوكه تجاه نفسه وسلوكه تجاه الآخرين. والوسيلة المطروحة في هذا البعد لتحقيق ذلك هي مراقبة إشارات المشاعر في ذاته وفي الآخرين وضبط سلوكه على أساسها. فالتعرف على هذه المشاعر يقدم معرفة مفيدة لعقل الإنسان تمكنه من اختيار السلوك الأفضل في الوقت المناسب ضمن البيئة المناسبة. وهذا ما يطلق عليه مصطلح ذكاء المشاعر أو الذكاء العاطفي Emotional Intelligence الذي يعد عاملا مهما من عوامل نجاح الإنسان في الحياة، وبات معيارا مهما من معايير التوظيف في المؤسسات المختلفة.
وهناك إضافة إلى ما سبق البعد التوجيهي الذي يركز على توخي الإجماع على المسائل المهمة التي يحتاج إليها المجتمع، مثل الإجماع على ارتداء القناع لمواجهة جائحة كورونا، أو الإجماع على الحصول على اللقاح للتخلص منها. وسيلة هذا البعد التوجيهي هي ثلاثية طرح الموضوع بقوة المنطق والدليل Advocacy، والتواصل حوله على نطاق واسع Communication، ثم الدفع بشأنه نحو حراك اجتماعي Social Mobility غايته تعزيز قناعة الجميع به. ولا شك أن الحراك الاجتماعي الذي شهده العالم في موضوع ارتداء القناع في مواجهة كورونا قد حمى كثيرين من أخطار هذه الجائحة الخبيثة.
ونصل إلى بعد خامس للهندسة الاجتماعية هو بعد الابتكار الاجتماعي الذي يسعى إلى إيجاد حلول جديدة تتوافق مع متطلبات اجتماعية، وتعطي قيمة تتميز عن حلول أخرى بكفاءتها وفاعليتها، من أجل عالم عادل ومستدام ومرفه. وتشمل هذه الحلول أفكارا جديدة، وخططا، وأساليب إدارة وتنظيم ضمن موضوعات مثل قضايا التعليم، والخدمات الاجتماعية، والخدمات الصحية، وموضوعات أخرى تهم المجتمع ويحتاج العالم إلى الابتكار الاجتماعي في مواجهات المعطيات المتجددة والمتغيرات الكثيرة التي يشهدها. ولا يقل الابتكار الاجتماعي أهمية عن الابتكار العلمي والتقني، بل هو مكمل له، يواكبه مستهدفا راحة الإنسان واستجابته، وتفاعل المجتمعات مع معطياته.
ليست الهندسة الاجتماعية احتيالا رقميا ميدانه الإنترنت، بل إنها العقلية العلمية التطبيقية في الميدان الاجتماعي المؤثر في كل إنسان والمتأثر به. وقد طرحنا في هذا المقال أبعادا إيجابية رئيسة خمسة لهذه الهندسة شملت: الإرجو – نومكس، والسلوك المستند إلى المعرفة، والذكاء العاطفي، وتوخي الإجماع في المسائل الإنسانية العامة، إضافة إلى الابتكار الاجتماعي. لكن هذه الأبعاد رغم تشعبها، تبقى غير قادرة على الإحاطة بجوانب هذا الموضوع كافة. والأمل أن تلقى الهندسة الاجتماعية مزيدا من الاهتمام والطرح كعلم متكامل يوفر حياة أفضل للإنسان في كل مكان وفي جميع الأزمان.
[ad_2]
Source link