▪︎ مجلس نيوز
إذا كان الكتاب يقرأ من عنوانه، فدراسة بعنوان “عملات البنوك المركزية الرقمية: فرصة للنظام النقدي”، تكشف الموقف الحديث، الذي تبناه بنك التسويات الدولية من العملة الرقمية بعد أن كان مناوئا لها لوقت لا يبعد عن سبعة أشهر.
على مدار تاريخ طويل، تطور المال وأسسه البنيوية ومؤسساته بالتوازي مع تطور التقنية المتاحة. وتم بناء عديد من ابتكارات الدفع الحديثة على أساس التطور التقني، ومع التحسينات التي تم إدخالها على التقنيات تم إدخال تحسينات على البنى التحتية الأساسية لتبادل المال في مواكبة متزامنة.
الآن، ومع تطور العصر الرقمي السريع، يتجه بنك التسويات الدولية إلى العمل بشكل وثيق مع المصارف وأنظمة الدفع لإطلاق عملات رقمية للبنك المركزي لعامة الناس.
يؤكد البنك أن الابتكار الرقمي أحدث تغييرات بعيدة المدى في جميع قطاعات الاقتصاد، وأنه إلى جانب الاتجاه الأوسع للعالم نحو رقمنة أكبر، وضعت موجة الابتكار في مدفوعات المستهلكين الأموال وخدمات الدفع في طليعة هذا التطور، والتغييرات واسعة النطاق في النظام النقدي الحالي مستمرة في الازدهار.
تتغير الطلبات على مدفوعات التجزئة، مع عدد أقل من المعاملات النقدية والتحول نحو المدفوعات الرقمية، ولا سيما منذ بداية جائحة كوفيد – 19. على نحو معكوس، فإن عملات البنوك المركزية الرقمية قد تعطي مزيدا من الزخم للابتكارات، التي تعزز كفاءة نظام الدفع وملاءمته وسلامته، حسب دراسة للبنك أصدرها أمس الأول من مقره في مدينة بازل السويسرية الشمالية.
منذ أن دخلت المشاريع التجريبية الخاصة بالعملات الرقمية للبنوك المركزية قيد التنفيذ في 2014، تحولت الجهود أخيرا إلى مستوى أعلى. فخلال العامين الماضيين، أطلق عديد من البنوك المركزية تجارب على الإصدارات الرقمية من عملاتها، مثل “لا بانك دو فرانس” و”لا بانك ناسيونال سويس” (البنكان المركزيان لفرنسا وسويسرا). أجرى الأخير دراسة جدوى مع بنك التسويات الدولية، أطلق عليها اسم “مشروع هلفيسيا” – هلفيسيا هو الاسم القديم لسويسرا – لكن الدراسة اقتصرت على تعاملات البنوك المركزية مع الوسطاء الماليين الرئيسين.
في ضوء هذه التجارب، أخذ بنك التسويات الدولية، وهو مؤسسة تعد البنك المركزي للبنوك المركزية في العالم، يفكر الآن في الخطوة التالية، وهي استكشاف الخيارات المتاحة لإطلاق إصدارات رقمية من عملات البنك المركزي، لكن هذه المرة لعامة الناس. في هذا الإطار، يبحث البنك الآن في كيف يمكن للعملات الرقمية للبنك المركزي أن تسهم في نظام نقدي مفتوح وآمن وتنافسي يدعم الابتكار ويخدم المصلحة العامة.
في أسئلة استيضاحية بشأن الدراسة، قال لـ «الاقتصادية» هيون سونك شين، المستشار الاقتصادي ورئيس الأبحاث في بنك التسويات الدولية، إن مفهوم العملة الرقمية للبنك المركزي “قد نضج” الآن، وأن عملات البنوك المركزية الرقمية هي شكل من أشكال النقود الرقمية، مقومة بوحدة الحساب الوطنية، وهي مسؤولية مباشرة للبنك المركزي.
ويؤكد أنه بالعملة الرقمية للبنك المركزي، سيكون في إمكان البنوك المركزية أن تفتح “فصلا جديدا للنظام النقدي” مع الحفاظ على “الخصائص الأساسية للنقود” التي “يمكن للبنوك المركزية فقط توفيرها”، مشيرا بشكل خاص إلى “الثقة” بالعملة.
ويقر بأن التفكير بشأن إصدار البنك المركزي العملات الرقمية قد تسارع مع صعود بيتكوين ومشاريع العملات الرقمية الأخرى المستقرة المدعومة بعملة مثل عملة فيسبوك العملاقة الأمريكية (دييم)، وأيضا مشاريع عملات أخرى تستهدفها عمالقة التقنية في الخدمات المالية.
ويضيف، سونك شين: إذا كانت الصين والولايات المتحدة قد شددت من لهجتهما ضد العملات المشفرة، التي تم انتقادها لاستخدامها لأغراض غير مشروعة، فقد اتخذت السلفادور من جانبها خطوة لاستخدام “البيتكوين” كعملة قانونية، لكنها أثارت اعتراضات من جانب صندوق النقد الدولي.
بدوره، قال الفرنسي، بينوا كوريه، رئيس مركز الابتكار في بنك التسويات الدولية، وهو القسم الذي يضمن “المعايير المطلوبة” للبنوك المركزية، إن العملات الرقمية للبنك المركزي “يمكن أن تشكل العمود الفقري لنظام المدفوعات الرقمية الجديد”. قبل ذلك ببضعة أشهر، أو في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، قال، كوريه: إنه “لا يمكن استخدام بيتكوين كعملة”.
تستعرض الدراسة (31 صفحة) مختلف السبل الممكنة للبنوك المركزية في إصدار العملات الرقمية، وتزن مزاياها وعيوبها. من بين المزالق المحتملة، يلاحظ واضعا الدراسة (كوريه وسونك شن)، إن هذه العملات الرقمية يمكن أن تؤثر، حسب الخيار المنتقى، في المهام التي تقع حاليا على عاتق المصارف ومشغلي أنظمة الدفع، مثل فتح الحسابات والتحقق من العملاء.
تميل الدراسة إلى نظام من مستويين، تكون فيه البنوك المركزية مسؤولة عن إدارة “القلب النابض للنظام”، مع الاستمرار في العمل مع المصارف والوسطاء الماليين، “كل طرف يلعب دوره الخاص”، على وجه الخصوص ما يتعلق بالتزام المصارف بالتعرف على عملائها. بمعنى آخر يمكن تصميم عملات البنوك المركزية الرقمية للاستخدام إما بين الوسطاء الماليين فقط (أي البيع بالجملة للعملات الرقمية للبنك المركزي)، وإما من قبل الاقتصاد الأوسع (أي البيع بالتجزئة).
تقول الدراسة إن العملات الرقمية للبنك المركزي تقدم المزايا الفريدة لأموال البنك المركزي في شكل رقمي: نهائية التسوية، والسيولة والنزاهة. إنها تمثيل متقدم للمال للاقتصاد الرقمي. غير أنها تدعو إلى استخدام الهوية الرقمية للتعرف إلى مستخدمي العملة الرقمية من أجل تحقيق التوازن بين حماية البيانات الشخصية ومكافحة غسل الأموال والجرائم المالية.
يشدد البنك على ضرورة أن يكون المعيار المهيمن عند تقييم تأسيس العملة الرقمية هو ما إذا كان ذلك يخدم المصلحة العامة. هنا، ينبغي أن تؤخذ المصلحة العامة على نطاق واسع لتشمل ليس الفوائد الاقتصادية المتدفقة من هيكل السوق التنافسية فقط، ولكن أيضا جودة ترتيبات الحوكمة والحقوق الأساسية، مثل الحق في خصوصية البيانات. ومن أجل الفوز بالمنافسة، ينبغي تبني أحدث جيل من أنظمة الدفع الفوري للبيع بالتجزئة، وأن تضمن العملات الرقمية للبنوك المركزية بالتجزئة منصات دفع مفتوحة، ومجال لعب متكافئا يفضي إلى الابتكار.
ستعتمد الفوائد النهائية لاعتماد تقنية دفع رقمية جديدة على الهيكل التنافسي لنظام الدفع الأساسي وترتيبات حوكمة البيانات. تقول الدراسة قد تفتح التقنية دوائر حميدة للوصول إلى البيانات بشكل أكبر وتكاليف أقل وخدمات أفضل، وقد تؤدي ذات التقنية إلى ممارسات ضارة للمنافسة. العملة الرقمية للبنك المركزي والمنصات المفتوحة هي الأكثر ملاءمة لفتح دائرة فاضلة.
يؤكد البنك إن النظام النقدي هو سلعة عامة تتغلغل في حياة الناس اليومية وتدعم الاقتصاد. يمكن أن يعود التطور التقني في الأموال والمدفوعات بفوائد كبيرة، لكن النتائج النهائية على رفاهية الأفراد في المجتمع تعتمد على هيكل السوق الأساسي وترتيبات حوكمة البيانات، التي تقوم عليها.
كما يمكن للعملات الرقمية للبنوك المركزية أن تحسن المدفوعات عبر الحدود، وتحد من مخاطر البحث عن بدائل للعملة الوطنية. ويمكن للترتيبات المتعددة للعملة الرقمية للبنك المركزي أن تتغلب على عقبات تبادل المعرفات الرقمية عبر الحدود، لكنها تتطلب تعاونا دوليا وثيقا.