▪︎ مجلس نيوز
كشف الصراع في أوكرانيا وجائحة وباء “كوفيد-19” عن مساحات ضعف شديدة في المنظومة الاقتصادية الأوروبية بسبب اعتمادها على الوقود الأحفوري القادم من روسيا، وتأخر الرقمنة خاصة في ألمانيا الأكبر صناعيا في القارة، وكذلك سلاسل التوريد الصناعية، مما حفز أوروبا على بدء العمل في إعادة ضبط أهداف سياساتها الاقتصادية المعتمدة على رفع مستوى ونوعية التعليم نحو الابتكار المتقدم، كحاجة ماسة لمتطلبات التحولات القادمة في سياق احتمالية مواجهة صدمات جيوسياسية واقتصادية ومنافسة شرسة مستقبلا.
بعكس العديد من دول العالم التي مازالت تحاول اكتشاف ما هو الابتكار أو تعتقد أنها تعرفه، تؤمن أوروبا بأن الصناعة العضوية هي محور منظومة الابتكار، و تستوعب أيضا أن صناعات المستقبل الابتكارية – التي في يدها مستقبل الهيمنة السياسية والاستدامة الاقتصادية والاجتماعية – تتطلب استثمار وببذخ في التعليم وكسب المهارات والتكنولوجيا والبحث العلمي التطبيقي وجرأة الدخول في مجالات لم تكن معروفة من قبل، بغية التفوق العلمي في مجموعات واسعة من الصناعات وخاصة في صناعة آلة التصنيع المعتمدة على الحوسبة الكمومية والذكاء الاصطناعي والإلكترونيات الدقيقة، فبدون تملك معرفة وقدرة صناعة الآلة الرقمية – التي لن تكون متوفرة للاستيراد لأن العالم المتقدم والمتناحر فيما بينه لن يتبرع بنقل المعرفة المتفوقة لطرف آخر مستقبلا – لن يكون هناك ضامنًا للقدرة التنافسية والسيطرة في ظل التغيرات المفصلية التي سيشهدها العالم.
إضافة، تتطلب الصناعة الابتكارية المتفوقة إلى تسريع الرقمنة المتقدمة على مستوى الشركات في أوروبا، خاصة في نشر البنية التحتية عالية الجودة، ورفع مستويات الاستثمار العام، وبجانب إعادة توجيه التعليم الهندسي المتقدم والبحث العلمي، سيكون التركيز أيضا على الاستثمار في رأس المال غير الملموس مثل استقطاب العقول والخبرة الإدارية، والبرمجيات، والملكية الفكرية، والبيانات اللازمة لتسخير الإمكانات الابتكارية للتحول الرقمي.
يدعم مدى جدية وصحة التوجه الأوروبي الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية التي يقلقها دائما مسألتا الهيمنة والسلطة كعادتها في نظرتها لمكانتها في العالم، فقد استلم الكونجرس – في 20 أكتوبر 2022 – رسالة موقعة من 30 رئيسا تنفيذيا من قادة الأعمال في عالم الصناعة، يطلبون فيها اعتمادا فوريا لمبلغ يقارب 12 مليار دولار لتمويل الأبحاث العلمية والتطبيقية التي تشرف عليها المؤسسة الوطنية للعلوم الأمريكية (NSF) لفترة الأربع سنوات القادمة، والتركيز بشكل خاص على الأبحاث الأكاديمية لطلاب الدراسات العليا في علوم الكمبيوتر والهندسة الكهربائية، وتوسيع قاعدة المعرفة وبناء البنية التحتية الرقمية المتقدمة اللازمة لتسهيل الاكتشاف والابتكار الذي يصنع النمو الاقتصادي، وذلك لدعم القدرة التنافسية للصناعة الأمريكية في مواجهة الخطر الداهم المقبل من جهات عدة في العالم ولكن الشرق على وجه التحديد، والذي يبدو أن أقطاب الصناعة في الولايات المتحدة يرونه حقيقة قادمة.
تدرك أوروبا (كما الولايات المتحدة) أنه بدون سياسات نوعية جديدة للارتقاء بنظام التعليم والبحث العلمي في التكنولوجيا والابتكار والتحولات الرقمية والخضراء في الصناعة، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة التي لابد أن تكون المسؤول الأول لسلاسل التوريد فيها، فغالبا ستواجه تحديات تنافسية صعبة ستفرضها الصدمات الجيوسياسية والاقتصادية عليها مستقبلا.