▪︎ مجلس نيوز
تعتبر صناعة السياحة من أبرز الصناعات نمواً في العصر الحديث وأكثرها رواجاً وقبولاً حول العالم، لتصبح محطّ اهتمام معظم الدول التي أخذت تتسابق لتأمين مكوّناتها ومتطلّبات نجاحها، للفوز بأكبر نصيب من الطلب العالمي على هذه الصناعة نظراً للدور الذي تلعبه في دفع عجلة التنمية الاقتصادية باعتبارها محركا رئيسيا لكثير من القطاعات الاقتصادية الأخرى مثل البنوك، النقل، الاتصالات، التامين وتجارة التجزئة.ومن منظور اجتماعي، فإن السياحة هي حركة ديناميكية ترتبط بالجوانب الثقافية والحضارية للمجتمعات؛ بمعنى أنها رسالة وجسر للتواصل بين ثقافات الأمم والشعوب، ومحصلة ايجابية لتطور المجتمعات السياحية وارتفاع مستوى معيشة الفرد فيها.
تعد منظمة السياحة العالمية المظلة الرسمية للسياحة في العالم والتي تُحدد فيها تصنيفاتها، ومكونتها، ومقومتها ومعاييرها كذلك مبادئها العامة. احدى الآداب السياحية التي توصي بها المنظمة هي إن السياحة نشاط ذو منفعة للدول والمجتمعات المضيفة إذ ينبغي أن يشارك السكّان المحليون في الأنشطة السياحية وفي المنافع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الناجمة عنها، خاصة فيما تُوجده من فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لتلك المجتمعات.
وبهذا ساهمت العديد من المنظمات الحكومية وغير الحكومية في العالم في دعم هذا النوع من السياحة، وعلى ضوء ذلك ظهر العديد من المصطلحات المتعلقة بها منها السياحة المجتمعية Community-Based Tourism، أو السياحة القائمة على المجتمع، أو السياحة المدارة من المجتمع، وهذا يدل على تنامي الوعي بأهمية دور السكان المحليين في هذه الصناعة.
تعد السياحة المجتمعية وسيلة للسياحة المستدامة وتسمح للمسافرين بالتواصل الوثيق مع المجتمعات المحلية. حيث يتم دعوة السياح إلى المنازل المحلية، تجربة الثقافة والتنوع والطقوس المحلية. ويشاع هذا النوع من السياحة عادة في الأرياف والقرى، لكونها تجعل السائح جزءاً من المجتمع، يشاركهم أنشطتهم الحياتية ويتعرف على تقاليدهم وعاداتهم، ويختبر المسافرون طريقة الحياة المحلية، والهدف من كل هذا هو إفادة المجتمعات المحلية مالياً بشكل مباشر.
الجدير بالذكر أن السياحة المجتمعية مفهوم قديم، بل قد يكون من أقدم المفاهيم السياحية على الإطلاق، حيث يقوم السكان المحليون بتطوير وجهاتهم ودعوة السياح لزيارة مجتمعاتهم للتعرّف عليها، مع تقديم الخدمات الأساسية لهم، مثل: السكن، والطعام والشراب المحلي، والحِرف والمنتجات المحلية، وبعض الأنشطة السياحية المعتمدة على مواردهم المختلفة، والتي توارثوها، كإبراز ثقافة المجتمع من عادات وتقاليد وموروث. الميزة الفريدة للسياحة المجتمعية هي أن التجارب السياحية يتم استضافتها وإدارتها من قبل المجتمعات المحلية نفسها. اذ أنها تجربة سياحية متخصصة واعدة مع الكثير من الفرص لاهتمام الكثير من المسافرين بالتعرف على الثقافات المحلية وطرق التفاعل الحقيقي مع المجتمعات المحلية.
وبحسب ما ذكره معهد Tourism Good أن من أهم مكتسبات السياحة المجتمعية دعم الثقافة المحلية للأجيال القادمة، وتسهيل التوظيف المحلي، واستفادة السكان المحليون مالياً بشكل مباشر، وخلق مجتمعات قوية ومرنة. ومن جانب آخر؛ تُمكّن السياحة المجتمعية السائح من اكتشاف البيئات الطبيعية والحياة البرية، كما انه يسمح للمسافرين بتجربة تنوع وعادات الثقافات المحلية والتفاعل مع الثقافات والطقوس التقليدية ويشجعهم على التواصل والتفاعل الحقيقي مع هذه المجتمعات. وكل ذلك يعد داعم كبير لحركة السياحة المتجددة والمستدامة. وهذا من شأنه ايضاً أن يعزّز الحفظ المجتمعي لهذه الموارد.
وقد سعت الدول لتشجيع هذه السياحة من خلال إشراك مجتمعاتها المحلية في التنمية السياحية، لأنها تدعم اقتصاداتها، وتساعد في الحفاظ على التراث والثقافات المهدّدة بالانقراض، وتُسهم في تحقيق التنمية المستدامة من خلال إشراك المجتمع المحلي في التنمية السياحية، وبذلت جهداً كبيراً للترويج لهذه السياحة، لمعرفة صناع القرار بتأثيرها إيجابياً على تقليل نسبة الفقر، وتقليل التفكّك الأسري، وتقليل نسبة البطالة، وتقليل الهجرة للمدن الرئيسية، وتوفر فرص لبيع المنتجات المحلية والأسر المنتجة، والحفاظ على ثقافة المجتمع.
التجارب والأنشطة السياحة المجتمعية عديدة ومتجددة والشائع منها في كثير من البلدان الطهي وتذوق الطعام المحلي، زيارة الاسواق الشعبية، التجول في القرى القديمة، تجربة صنع وشرب القهوة، الصيد أو الإبحار مع السكان المحليين، ركوب الدراجات والخيول، زيارة المزارع وقطف الثمار، الصناعة اليدوية أو الرسم، الاستماع لروايات وقصص كبار السن المرتبطة بالمكان. ويحظى كذلك الزوّار خلال السياحة المجتمعية بالإقامة في منازل السكان المحليين التي خُصّصتْ لهذا الغرض، أو في المخيمات أو المزارع، والاطّلاع على الاحتفالات الشعبية وتجربة اللباس التقليدي. لتخرجك هذه السّياحة عمّا هو مألوف لك، وتُجنّبك تجربة السائح التقليدي.
ومن التجارب الوطنية في السياحة المجتمعية في محافظة الريث بمنطقة جازان، والذي نشرته صحيفة الشرق الأوسط، حول مشروع شخصي يهدف إلى إبراز جوانب ثقافية وجغرافية وتاريخية للمنطقة، والذي تبنّاه أحد سكانها ممن لديه اهتمام وشغف بالمحافظة على تاريخ منطقته، ووصف الأمر بالحلم بالنسبة إليه، لتسليط الضوء على ما تحتويه من كنوز ثقافية وسياحية.
فقرّر إطلاق مشروعه الخاص من مزرعته المحاطة بالجبال و المتوارثة عن جَدّهِ، عندما إنشاء فيها نزل بيئي فريد من نوعه، يكون مهيئاً لاستقبال السيّاح من السعودية ومن خارجها، لزيارة مزارع البُن، والمانغو، والعديد من الفواكه والنباتات العطرية، وممارسة رياضة (الهايكنغ) في الجبال شديدة الصعوبة، إضافة إلى الاطلاع على ما تحتويه من كنوز ثقافية وسياحية، مثل بعض النقوش في المزرعة وأسلوب الحياة فيها.
كما يوجد العديد من هذه التجارب والشواهد على السياحة المجتمعية في المملكة وتعايش معها الكثير من المسافرين الى العلا، وعسير، وشمال المملكة وامتداد ساحل البحر الأحمر، والتي اتاحت لأهالي تلك المناطق والوجهات السياحية فرصة لصناعة سياحة فردية في منطقتهم كرواد أعمال، ومديرين وموظفين محليين، ومقدّمي خدمات. والأهم من كل ذلك، أنّ الفوائد الاقتصادية تذهب مباشرة إلى هذه العائلات المحلية فتشجّعهم على البقاء داخل مجتمعهم.
كما ذكرنا، تعد السياحة المجتمعية جزءًا حساسًا للغاية. هذا يعني أنه يمكن أن يكون لها آثار وتحديات سلبية إذا لم يتم تنظيمها وإدارتها بشكل صحيح وبعناية. فأصبحت السياحة المجتمعية أكثر شعبية بين منظمي الرحلات (الوكالات السياحية) لأنهم يتطلعون إلى الاستفادة من المجتمعات المحلية وإشراكها أثناء تطوير تجارب سياحية جديدة للمسافرين. لذلك، من الضروري الوقوف أيضًا على التأثيرات والتحديات السلبية المحتملة. فترغب المجتمعات المحلية بتحسين سبل عيشها وبناء مستقبلها لذلك يعتمد معدل نجاح التجربة السياحية على شعور هذه المجتمعات بملكيتها لهذه التجارب والاستفادة المالية المجزية منها.
وتواجه تطوير السياحة المجتمعية تحديات اخرى منها نقص قدرات ومهارات افراد المجتمع في امور السياحة والضيافة وكذلك قلة التمويل، والتي بدونها من الصعب تحقيق نجاح طويل المدى. ومن أهم هذه المهارات الأساسية التي تحتاج المجتمعات التمكين بها هي اللغة والتواصل اذ لا يتمكن العديد من السكان المحليين في المجتمعات السياحية من التواصل مع المسافرين والزائرين بسبب اللغة. فعندما يكون كلا الطرفين لا يجيدون التواصل الصحيح، لا يمكنهم التفاهم والمشاركة وإذا لم يتمكنوا من المشاركة، فإنهم يميلون إلى الاستياء منها ولا تصبح لها نفع.
وما قدمته وجهة البحر الأحمر وامالا للمجتمعات المحلية كجزء من مبادراتها المجتمعية مثال على الاهتمام لصقل مهارات المجتمع المحلي لتمكينهم من العمل في هذا القطاع من خلال إطلاق برنامج مختص لتعلم التواصل باللغة الإنجليزية في مجال السياحة. فما يميّز تطور مفهوم السياحة المجتمعية هو أنها تكون قائمة على مبدأ الاستدامة، فعند تطوير وجهات بهذا المفهوم الشامل فمن الضروري أن تساهم هذه الوجهات في تطوير الموارد المحيطة بها ومن أهمها المجتمعات المحلية لخلق تجارب وانشطة سياحية من خلالهم مع الحفاظ على الموروث الثقافي الذي يعملون على إبرازه للسياح مما يساعد على استدامته ونقله للأجيال الأخرى، وبهذا تصبح هذه الوجهة متكاملة وشاملة وجاذبة.
فلذلك من الضروري أن يتم تطوير السياحة المجتمعية وتشغيلها بشكل صحيح لضمان الفوائد الفعلية للمجتمعات المحلية. إنها سوق متخصصة متنامية، يبحث المزيد والمزيد من المسافرين كل عام على مثل هذه التجارب الأصيلة، فما يعد عادي لدى المجتمع المحلي هو تجربة فريدة للمسافر.
فيتّفق معظم خبراء السياحة على العديد من الجوانب الهامة التي يجب مراعاتها من قبل أصحاب العلاقة والاهتمام بها عن كثب عند صناعة وإثراء التجربة السياحية المجتمعية. ومن العوامل الرئيسية لهذه الصناعة التي ينبغي الاهتمام بها هي المشاركة المجتمعية وبدون مشاركة المجتمع، من الصعب جدًا إنشاء تجربة سياحة مجتمعية ناجحة وواقعية. فأولى هذه الممكنات هي المشاركة المجتمعية والتواصل مع المجتمع المحلي لأنه يعد العنصر الأساسي لهذه السياحة. وبناء الثقة معهم من خلال التعاون والتفكير المشترك حول ما يميز ثقافتهم وما الذي يرغبون في مشاركته وإلى أي مدى قادرين في تقديمها وتحمل المسؤولية في هذه التجربة بأكملها. والممكن الثاني أثناء عملية تطوير السياحية المجتمعية هي الاهتمام في تدريب السكان المحليين على المهارات الازمة التي تساعدهم على إدارة النشاط السياحي من فنون التواصل والترحيب، التسويق، الاستدامة المالية، ومعايير السلامة وخطط الطوارئ. وثالث عمليات التطوير هي تمكين العوائل ورواد الأعمال السياحية من خلال توفير الدعم المالي وتسهيل الأعمال لكامل التجربة وملحقاتها.
وقد تمكَّنت المملكة فعلاً من اتخاذ خطوات نوعيَّة على صعيد بناء قطاع سياحي مستدام. فالمملكة العربية السعودية زاخرة بعناصر الجذب السياحي الثقافية منها والفكرية، والمواقع الأثرية والطبيعة المتنوِّعة. كما تمتلك خصوصية وفرادة، ومقوِّمات أُخرى، تتيح بناء تجربة ناجحة ومتميِّزة في هذا النوع من السياحة. إلى جانب المقوِّمات الأساسيَّة لبناء قطاع سياحي اجتماعي مستدام، كتوفر الموارد المالية والعناصر البشرية الكفؤة، وبنية تحتية حديثة، وحملات تسويقية فعالة ذات محتوى راق، وبرامج واقعية لتشجيع وتمويل نشاطات الأهالي ومشاريعهم الثقافية والسياحية. وعلى المجتمعات المحلية القريبة من هذه الوجهات السياحية تطوير ما لديهم من ممتلكات ومقومات جاذبة للمسافرين الذي يبحثون عن السياحية المجتمعية وتشجيع افرادهم في تبنيها وممارستها والتسجيل في المنصات والمبادرات الحكومية المختلفة الداعمة والممكنة لمثل هذه الأنشطة.