▪︎ مجلس نيوز
في أحد لقاءاته التلفزيونية كان المذيع (يكح) فقال له: لماذا تصدر هذا الصوت، قال المذيع: إنه (السعال)، فقال: حتى ولو، إنك لا تعيش حياتي، ولا تفهم موضوع الأمن، لأن الشخص حين يكون بعيدا عن ذلك لا يلاحظ هذا الشيء ببساطة.
قد يبدو هذا الحس الأمني مصطنعا ومبالغا فيه، لكنها الصورة النمطية التي يريدها الشعب الروسي، الرئيس القوي الذي أعاد لروسيا هيبتها ومكانتها الدولية، المتابع للسيرة الذاتية لفلاديمير بوتين ومسيرة البنيان الأيديولوجي المتراكم لديه منذ بداياته الأولى وخلفيته السياسية المتواضعة ثم الآلة الإعلامية التي صاحبته منذ ظهوره الأول في بدايات الألفية، يدرك جيدا أنه نتيجة حتمية لنفس المواقف والأسباب التي أنتجت أدولف هتلر بعد الحرب العالمية الأولى، هكذا قال الإعلامي الشهير فلاديمير بوزنر في محاضرة رائعة له: إن فلاديمير بوتين صنيعة غربية بامتياز، لا ينبغي إهانة الكبار وإذلالهم، إنه نفس الخطأ الذي وقع فيه الحلفاء بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، تم إذلال ألمانيا؛ فانتخب الشعب الألماني أدولف هتلر بطريقة ديموقراطية نزيهة.
ويضيف بوزنر: إن الشعب الروسي أيام الاتحاد السوفيتي كان يكره (وول ستريت) و(البيت الأبيض) أو (الكونجرس) مثلا، أما الآن أصبحت الكراهية موجهة ضد الشعب الأمريكي، وهذا خطير جدا. لا يخفي بوتين حسرته على انهيار الاتحاد السوفيتي ولا يسعى في نفس الوقت إلى استعادة الشيوعية وهو صاحب الاقتباس الشهير: (من لا يندم على تفكك الاتحاد السوفيتي فليس له قلب، أما من يريد إحياءه بشكله السابق فليس له عقل).
كانت نظرات الاحتقار والاستخفاف به شخصيا وبروسيا أمورا عادية من قبل زعماء الناتو. لقد تم القضاء على حلف وارسو وأهين الاتحاد السوفيتي وأهينت روسيا. أضمر ذلك في صدره وتسامى فوق كل الجراح وظل منذ توليه السلطة مطلع الألفية الجديدة يقدم قرابين الولاء والطاعة للغرب، ويسأل حتى عن إمكانية انضمام روسيا إلى الناتو والاتحاد الأوروبي وكانت إجابتهم، كما وصفها نفس الإعلامي فلاديمير بوزنر: (إن بلدك كبير، اذهب وخذ جولة فيها). وفي نفس الوقت كان يتساءل كثيرا ويبحث عن المبررات والأسباب التي تدفع الناتو إلى التمدد شرقا، وكانت الإجابة تأتي على صيغة: (إن هذا مجرد إعلان، لا أحد ينوي السماح لهذه الدول بالانضمام، لقد كان مجرد عمل مهذب والجميع يعلم ذلك).
وبعد سبع سنوات من التودد الفاشل إلى الغرب أطلق إنذاره الأول عام 2007 وظل خمسة عشر عاما ينتظر التجاوب والضمانات الأمنية دون جدوى. أيقن حينها أن الأزمة لم تكن في الأوروبيين، بل في روسيا نفسها، إنها الأزمة القديمة المتعلقة بالهوية الروسية، لطالما اختلف المثقفون الروس في تحديد الهوية الروسية، حيث ينظر لهم في آسيا على أنهم أوروبيون وفي أوروبا على أنهم آسيويون.
منذ بداية عصر النهضة والتنوير ومشاعر الكراهية والتوجس تجاه الروس (الروسوفوبيا) منتشرة لدى الأوروبيين، حيث ينظر لهم بدونية، برابرة آسيويين متخلفين. وعندما أراد الروس اللحاق بركب الحضارة وبنى لهم بطرس الأكبر مدينة سان بطرسبيرغ على النمط الأوروبي وأجبر النبلاء على حلق لحاهم الأرثوذكسية لم تتغير نظرة الأوروبيين تجاههم واعتبروهم مجرد مقلدين.
وبعد صراع فكري داخل النخب الثقافية الروسية توصلوا إلى صيغة مقبولة قائمة على أن روسيا مميزة فعلا، وتميزها يكمن في كونها مختلفة عن الجميع، لذلك تبنى الروس القومية السلافية والقيم الإرثوذكسية المحافظة، لكن الثورة الشيوعية وقيام الاتحاد السوفيتي أخذ النقاش حول الهوية إلى أبعاد أخرى وأجّل النظر أكثر من سبعين عاما.
سقوط الاتحاد السوفيتي أحدث فراغا داخل النسيج الاجتماعي الروسي، وأعاد السؤال الأكثر إلحاحا حول الهوية الروسية إلى الواجهة مرة أخرى، وهذه المرة كان فلاديمير بوتين جاهزا بالأيديولوجية القيصرية وحاملا للواء العرق الروسي ومدافعا عنه حول العالم، فلماذا هذه الضجة حول أوكرانيا!!
بالمسدس تحل جميع المشاكل، هكذا قال ال كابون زعيم المافيا في شيكاغو في الثلاثينيات. لا أجزم بأن فلاديمير بوتين سمع هذه الجملة، لكنني أجزم بأنه طبقها بحذافيرها في حل مشاكل روسيا الداخلية مع الأوليغارشية والطغمة الفاسدة، وهذا ما زاد من شعبيته التي بلغت 85% وأعطاه التفويض والغفران الشعبي. وكما قال ميكيافيلي في كتابه (الأمير): (من الأفضل أن يخافك الناس على أن يحترموك)، كان على العالم أن يستقبل بكل هدوء شخصية فلاديمير بوتين؛ لأنه لو لم يكن هناك بوتين، لكان هناك بوتين آخر.
لا أحد اليوم يريد أن يسمع شيئا من الإعلام الروسي، أغلقت جميع القنوات الإعلامية الروسية على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا ينبئ بقنبلة هائلة من الكراهية بين الشعوب تحدث لأول مرة؛ لذلك كان على بوتين أن يعيد تفعيل الإرث السوفيتي النووي وهالة الفخر بالجيش الأحمر المهيب.
عندما سأل أحد الصحفيين الأمريكيين نائب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق عما إذا كان بوتين جادا في غزو أوكرانيا؟ أجاب: «إنه جاد كنوبة قلبية»، كم هو جميل هذا التشبيه!!
MBNwaiser@