[ad_1]
يعد كتاب إدوارد فيشر إضافة إلى الاهتمام الأنثروبولوجي المتزايد حول فهم الناس لمفهوم “الرفاهية well-being، حيث يبحث من منظور “كيف يتفاعل الناس مع السوق لتحقيق رؤاهم الخاصة للرفاهية” (ص.1). وهو الأمر الذي ينظر إليه بوصفه عملية معقدة، وفقا لعرض مايكل كوستيو لهذا الكتاب لمصلحة موقع أليجرا، وترجمة ضي رحمي، حيث يضطر البشر إلى ترويض وكبح جماح طموحاتهم من أجل “فعل ما هو صحيح” للوصول إلى وضع “شبه” سعيد. اعتمد فيشر في بحثه على المقارنة بين أفراد من سكان ضاحية سكنية مستقرة للطبقة الوسطى في هامبورج في ألمانيا، وبين مجتمع شديد الاختلاف وهم الفلاحون زارعو البن في مرتفعات جواتيمالا، الذين يعانون الأمرين من أجل العيش في ظروف قاسية وغير آمنة.
“تركز البحث على الصفات الرئيسة، غير المادية “المعنوية”، التي تضع تعريفا للحياة الجيدة good life، مثل: الطموح والفرص، والكرامة والنزاهة، والالتزام بأهداف أسمى” (ص.2).
يتكون هذا العمل من جزأين، يعتمد الأول على البحث الأنثروبولوجي الميداني لدراسة رؤية المجتمع في هامبورج لمعنى القيم والاختيار والمفاضلة، وهو ما أوضحه فيشر في مسألة اختيار أسعار السلع، من البيض إلى السيارات، وذلك للإجابة عن هذا السؤال “بالنسبة إلى المتسوقين الألمان، متى يكون السعر مرضيا؟ (ص.23). كما يناقش كيف أن الأفعال لا تتطابق بالضرورة دائما مع المرغوب فيه فعليا، لكنه في الوقت نفسه يجادل بأن الاختيارات والأولويات المعلنة والظاهرة لا تتعارض مع هذا المعطى “مزيد من التركيز على الأهداف طويلة المدى والغايات المعنوية” المذكور سالفا (ص.44). ومن الناحية الأنثروبولوجية، يعد هذا الجزء هو الأكثر ثراء من بين جزأي الكتاب، لأنه يكشف عن صوت السكان أنفسهم.
يركز الجزء الثاني على جواتيمالا، ولهذا استمد المؤلف عديدا من معلوماته من الدراسات الاستقصائية والمسوح الاجتماعية في أوساط مزارعي البن هناك، كما ركز فيشر في بحثه على بعض التفاصيل المتعلقة بتاريخ الصناعة وبحث أيضا، بشكل خاص، في التجارب شديدة الاختلاف للطبقة الوسطى الألمانية من سكان المدن.
ويوضح لنا هنا حياة تهيمن عليها الريب والشكوك الناتجة عن تقلبات الموضة في سوق العالم الأول وما يستتبع ذلك من متطلبات. تعلي الرموز الأخلاقية المحلية من قيمة العمل الجاد، وتدين المكاسب غير المشروعة، وهؤلاء الذين يمتنعون عن مساعدة الأهل والجيران على المعيشة، وهذا دليل على وجود أفكار متعلقة بمفهوم الاقتصاد الأخلاقي (ص.62). ورغم أن التطلعات إلى الرفاهية كثيرا ما تعتمد على محاولات كسب العيش الواقعية، إلا أنها تشمل أيضا بعدا أخلاقيا، كما هي الحال مع أهل هامبورج.
“وفي كل من هامبورج ومرتفعات جواتيمالا، يبرهن فيشر على أن الأعراف الاجتماعية المجتمعية توجه وتقود الخيارات الفردية”.
في رخاء هامبورج تظهر لنا الرفاهية well-being بوصفها الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية تجاه الآخرين، التي تأتي في بعض الأحيان على حساب المكاسب والأرباح الفردية الفورية الممكنة، مثل الاهتمام بالبيئة وأحوالها في المستقبل، وهو ما يعرف بالمصلحة العامة The-Good-Life_EFischer.
كذلك في تلال جواتيمالا نجد أن السعي إلى حياة الرفاهية يكمن في اعتبارات مماثلة، وذلك على الرغم من تضاؤل فرص الاختيار أمام الفلاحين بسبب ما يشهدونه من قسوة في تأمين الحد الأدنى من الضروريات الأساسية للحياة واستغلالهم أي فرصة من شأنها أن تساعدهم على التغلب على الأوضاع الاقتصادية العسيرة. كتب فيشر قائلا “لو كانت الوظيفة دولة، فلا بد أنها جواتيمالا” (ص.181). كما يوضح كيف يسعى أبناء المجتمعين، في هامبورج وجواتيمالا، داخل عوالمهم المنفصلة، للشعور بالرفاهية، مهما اختلفت عناصر البحث أو الوسائل المتاحة.
“تكمن المشاركة أكثر في السعي، من خلال مسارات مختلفة يربط بينها الاقتصاد، وليس عبر تحقيق هدف تجريبي مشترك، لذلك نرى الرفاهية كعملية كفاح وسعي، وحالة ذهنية في وقت معين وليس كشرط ثابت غير قابل للتغيير”.
ويبحث فيشر، عبر كلماته قائلا “الأنثروبولوجيا القادرة على تقديم بدائل مفاهيمية غير مستندة إلى نماذج جامدة، بل إلى التفاهمات الإثنوغرافية الاستقرائية عما يريده الناس من حياتهم” (ص.65)، مضيفا “ما يريده الناس يحتل موضعا في التداخل بين الهياكل السياسية الاقتصادية العالمية، والأفعال الجماعية، والفنون الثقافية، وكلها تلتف حول فكرة الحياة الكريمة” (ص.68).
لم ينزلق فيشر نحو إشكالية المقارنة بين ما يقوم به الفاعلون بالفعل، وبين ما يتوقعون حدوثه، إن “الاختيارات المعلنة” التي توضحها أفعال الناس، “الاختيارات المعلنة” التي يميل الاقتصاديون إلى إعطائها الأولوية (ص.44). وهذا يصف ويحدد دور التطلعات في المجتمعين الخاضعين لدراسته.
يشترك هذا العمل في مناقشة دخلتها مجموعة واسعة من علماء الاجتماع بمن فيهم علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاقتصاد السلوكي، حيث إنه يصر على أن ما يفعله الناس في الواقع لا يعكس بالضرورة قيمهم وتطلعاتهم.
“في بحثه المثير للاهتمام حول خيارات الناس “الظاهرة” أفعالهم وأولوياتهم “المعلنة”، يخلص فيشر إلى اقتناع بأن هذا الأخير “يساعدنا على فهم قيمهم ومُثلهم، آمالهم وأحلامهم المستقبلية، الشخص الذي يريدون أن يكونوه، وشكل العالم الذي يريدون العيش فيه”.
هذا يخبرنا كثيرا، ليس فقط عن كيفية سريان الأمور فحسب، لكن عن الطريقة التي يمكن أن تصبح عليها الأمور أيضا، “التطلعات التي هي جوهر مشاريع الحياة” (ص.50). وهنا يكتشف القارئ أن فيشر قد أدغم ودمج كلمتي “تطلعات” و”أمل”، وسيجد دارسو الأمل والنوستالجيا تواصل الرؤى داخل تلك المفاهيم.
ولم يختزل فيشر تطلعات الناس، كما يراها علم النفس، بوصفها مجرد تمارين عقلية لكيفية إدراك المرء للأمور، بل مضى بعيدا وعلى نطاق واسع نحو جوانب النظرية التنموية، ولا سيما نظريات أمارتيا سين، للتأكيد على ما يراه من أهمية لـ”القدرة على العمل والإمكانات المادية كعناصر أساسية لحرية تشكيل الحياة التي يقدرها الفرد” (ص.158).
الببلوغرافيا الخاصة بالكتاب هي في حد ذاتها كتيب صغير وكأنه قائم بذاته، وهذا يرجع إلى موضوعه المتشعب. ونأمل أن يحفز هذا على البحث في مواضيع العنوان الفرعي للكتاب، ربما لتشمل الأساليب التي ستمتد إلى ما هو أبعد من سعي الناس إلى الحياة الكريمة فقط في المجتمعات التي تسيطر فيها الأسواق التجارية على الاقتصاد. وهذا ربما يتضمن فهما لحالة “شبه العزلة” في منطقة الأمازون، أو تلك الدول غير الرأسمالية تنظيميا مثل كوبا، أو غيرها، ربما بين مجتمعات في القوقاز، مثل أبخازيا، حيث تهيمن القواعد والمعايير العرفية على الدولة في دولة “متقدمة”.
كتب فيشر، أن في جواتيمالا “الدولة غائبة إلى حد كبير” (ص.185)، بينما يروج للقيم المجتمعية في هامبورج بتشريعات الدولة. وفي حين دلل على هذا بالنسبة إلى ألمانيا، إلا أنه في حالة جواتيمالا ترك الأمر مثارا دون توسع، ودعا الآخرين إلى القيام بذلك – وهذا قد يشجع أيضا على الامتداد في البحوث الإثنوغرافية في المجتمعات التي لا تخضع فيها الأعراف لمؤسسات الدولة – للبحث في جدلية التحول بين العرف ودولة القانون.
لقد وفر بحث الكاتب بمصطلحاته كافة قائمة متماسكة وصلبة البنيان لمواضيع ومفاهيم، نأمل أن تقودنا إلى مزيد من الأبحاث والتناول الأنثروبولوجي.
[ad_2]
Source link