▪︎ مجلس نيوز
لو أجرينا دراسة إحصائية بسيطة أو استطلعنا رأي الناس عن: أيهما تختار مكانا للدراسة؛ جامعة محلية أم جامعة هارفرد! لربما وجدنا 99.9% منهم يختارون جامعة هارفرد بلا تردد، والبقية (واحد من ألف) ستختار الجامعة المحلية لأسباب خاصة أو ربما خوفا من السفر وركوب الطائرة، ليس إلا، وهذه الإجابة المنطقية ليست تقليلا من شأن ومكانة جامعاتنا، لا أبدا، ولكنه واقع هارفرد الذي لا يختلف عليه اثنان، وأحلام الإدارات الجامعية المحلية التي تحاول فرضها كواقع لا يشعر به إلا هي وحدها فقط.
صحيح أن عقد المقارنة مع جامعة هارفرد فيه ظلم للجامعات الأخرى، فجامعة هارفرد تأتي في المراكز الأولى إن لم تكن هي الأولى على كل جامعات العالم، وإليها تشد رحال العلماء وطلاب العلم من أصقاع المعمورة، ومنها يتخرج الأفذاذ والعباقرة، وعلماؤها (نوابل) على اعتبار أن أكثر من 150 عالما ممن درّسوا فيها أو تخرجوا منها حصلوا على جائزة نوبل في مختلف فروعها العلمية، بينما جامعاتنا ما تزال في البدايات، وهي بلا شك جامعات طموحة، وينتظرها مستقبل عظيم وباهر (خاصة) إذا ما روجعت بعض سياساتها الإدارية، وأعيدت خططها الاستراتيجية بشكل يضمن لها على الأقل شرف المنافسة في المحافل الدولية.
لماذا نعقد هذا النوع من المقارنات؟ هل المقارنة هنا للمفارقة أم للمقاربة؟ أم أننا نود القول إنه لا يمكن اعتبار تقدم جامعاتنا في التصنيفات سببا وجيها ومؤشرا حقيقيا يعكس أداء الإدارة الجيد، أو يعكس حقيقة تطور البحث العلمي وجودة التدريس، كل شيء ممكن ووارد، ولكن قبل الخوض في هذه التساؤلات والبحث عن إجاباتها المعروفة سلفا دعونا نؤكد على أنه لا شيء يدفعنا للنقد الصريح لأداء هذه الإدارة أو تلك إلا رفعة الوطن والمحافظة على سمعته وموارده المالية، بغض النظر عن صفات وذوات من يعمل مخلصا ومجتهدا أو لا يعمل مطلقا، ومن ينجح ويتفوق أو لا ينجح أبدا.
في آخر إصدار لتصنيف يو اس نيوز 2022 حل قسم الهندسية الميكانيكية بجامعة الملك عبدالعزيز في المرتبة 2 على مستوى العالم (وهذا إنجاز ورقي عظيم لم يحتف به بعد ولم تكرم الجامعة عليه!)، جدير بالذكر أن المركز الأول قد حجز لجامعة شيان جياوتونغ وهي جامعة صينية مغمورة (على الأقل بالنسبة لي)، وخلت المراكز الخمسة عشر الأولى من الجامعات الأمريكية والبريطانية، بمعنى أنه لا هارفرد ولا ستانفورد ولا كامبريدج ولا اكسفورد تنافس جامعات صينية وشرق أوسطية هي -في العرف الأكاديمي- من جامعات الصف الأخير! وهذا ضرب من الخيال، ولا يمكن الأخذ به أو القياس عليه أو حتى تصديقه!
وفي التصنيف نفسه جاء قسم الهندسة الالكترونية والكهربائية بجامعة الملك عبدالعزيز في المرتبة 17 بينما جاء قسم الهندسة الالكترونية والكهربائية بجامعة هارفرد في المرتبة 101، وهذا البون الشاسع بين القسمين في الترتيب لا بد له من تفسير منطقي! هل يا ترى التصنيف غير دقيق، وبالتالي لم يعكس الواقع! أم أننا فعلا تقدمنا وتطورنا، وتفوقنا على هارفرد، ومن هول المفاجأة لم نصدق ما نحن فيه! لا أبدا، لا هذه ولا تلك، فالتصنيف صحيح، ونحن في الواقع لم نتقدم قيد أنملة، ولولا عامل غزارة النشر العلمي لكانت جامعاتنا في أواخر الرُبع الثالث من قائمة التصنيف أو ربما خارجه!
قسم الكيمياء في جامعة هارفرد يعد من أبرز أقسام الكيمياء في العالم، حيث إن هناك ما لا يقل عن 35 عالما من هذه الجامعة العريقة قد نالوا جائزة نوبل في الكيمياء، ولو عدنا لتصنيف يو اس نيوز 2022 لوجدنا أن قسم الكيمياء بجامعة الملك عبدالعزيز يحتل المركز 8 متقدما على قسم الكيمياء بجامعة هارفرد الذي حل في المركز 14، وهذا يعني أن جامعة الملك عبدالعزيز قد تفوقت على هارفرد في أهم التخصصات! شيء ما هنا غير مفهوم أو بالأحرى هو معلوم ولكنه غير مقبول!
قد نجد العذر للجامعات الصينية من باب غزارة نشر الأبحاث العلمية، فلا أحد ينكر الطوفان الصيني في النشر العلمي، وهو طوفان صيني خالص، ليس به شوائب أجنبية، وقد يتطور هذا الطوفان مع مرور الأيام فيحدث ثورة علمية جديدة يتحكم في زمامها الصينيون، لكن لماذا نجد العذر للصينيين ولا نجده لأنفسنا؟ لماذا غزارة النشر الصينية قد تحدث ثورة علمية ونحن لا؟! الجواب ليس صعبا ولا جديدا، فهو ببساطة يتمثل في أن غزارة النشر العلمي في جامعاتنا المحلية غزارة مستوردة أو مصطنعة، لا تدوم، ولا يمكن الركون إليها أو الاعتماد عليها.
أجرى أحد الزملاء من المختصين تحليلا إحصائيا لأبحاث إحدى الجامعات المحلية المنشورة على شبكة العلوم WoS على اعتبار أن الجامعة تأتي كل مرة في مراكز متقدمة في معظم التصنيفات الدولية، فوجد تقريبا ما نسبته 65% من الأبحاث المنشورة باسمها هي لباحثين أجانب يعملون في الخارج بعقود أبرمت معهم، و25% يرجع لتعاونات بين باحث محلي على الأقل وباحثين دوليين، والنسبة المتبقية تمثل أبحاث محلية لباحثين يعملون في الجامعة بغض النظر عن جنسياتهم، وهذه النتائج ليست سرا يذاع لأول مرة، ولا تجنيا على أحد، بل هي معلومات مفتوحة ومتاحة لمن أراد، وبإمكان أي شخص الدخول على الشبكة والاطلاع على أدق التفاصيل.
أي نشر علمي هذا الذي تنافس به إدارة مثل هذه الجامعة جامعات العالم، وتتفاخر به، وتكرم عليه من قبل مسؤولي الدولة، وما يقارب ثلثيه أو يزيد ليس لها ولا يربطه بها إلا العنوان المرجعي الذي يشير إليه الباحث الأجنبي! هذا الوضع تماما كما لو أن شخصا يتبنى مجهولا، ثم يزعم أنه من صلب ظهره، فإذا عرف المجهول أهله عاد إليهم وانتسب لهم، أو ذهب في حال سبيله، وبقي ذلك الأب الأحمق مكلوما يبكي ابنا يظنه عاقا، فلا ينفعه البكاء ولا إثم العقوق يلحق ولد الناس!
drbmaz@