▪︎ مجلس نيوز
التضخم مشكلة اقتصادية معقدة تحتاج إلى فهم عميق للبحث في أسبابها الكامنة، فهو كمؤشر يظهر في الاقتصاد على شكل ارتفاع في الأسعار، أو يعد في جوهره تناقصا حقيقيا في القوة الشرائية للعملة المحلية، وتراجعا مستداما في قيمة سعر الصرف العالمي، ما يجعل أسعار البضائع المستوردة أكثر ارتفاعا في سعرها. وقد يكون التراجع في القوة الشرائية مؤقتا، أو بكمية النقود أو قد يعود إلى سياسات البنك المركزي وتراخي أسعار الفائدة، بحيث يصبح لدى الناس رغبة أكبر في الاستهلاك بدلا من الادخار. وفي بعض الحالات يكون مصاحبا للركود، بحيث إن النشاط الاقتصادي يظل متراجعا عموما، بينما الأسعار ترتفع نظرا إلى الضرائب والرسوم الجمركية. وفي كل الأحوال، فإن الأثر سيكون واضحا على الوظائف، وسوق العمل.
ومن خلال تحليلات سابقة لـ”الاقتصادية”، وتقارير نشرتها على مدى الأشهر القليلة الماضية، كان من الواضح أن العالم يعاني ضبابية بشأن الأسباب الكامنة خلف ظاهرة التضخم العالمية حاليا، والعديد من الشخصيات القيادية في مراكز القرار الاقتصادي دوليا، غير متأكدة من الوصفة المناسبة للحالة الاقتصادية الراهنة، وهناك صعوبات في التكهن بشكل ومستوى التضخم ومعدلاته، وحجمه، والطريقة المناسبة لمواجهته.
وطبقا لحديث لجيروم بأول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، أخيرا، الذي أوضح أن المجلس سيؤجل رفع سعر الفائدة القياسي ويستبدل ذلك بسحب إجراءات التحفيز بحلول نهاية العام، فمن الواضح أن الفيدرالي يراهن هنا على أن الأسباب الكامنة خلف التضخم الحالي مؤقتة، وأن سياسات التحفيز التي انتهجتها الحكومة خلال أزمة كورونا هي السبب، لذا يعتقد بأن سحب التحفيز في هذا الوقت سيكون الرهان الصائب، وهو في هذا الاتجاه يردد عبارة ستكون له أو ضده في المستقبل، حيث يقول إن “السياسات التي تعتمد في توقيت غير مناسب يمكن أن تكون ضارة جدا”.
وهذه العبارة صحيحة على إطلاقها، ولكن اختيار الفيدرالي قرار عدم رفع سعر الفائدة وسحب التحفيز هو الذي سيكون إما قرارا صائبا، وإما خطأ كارثيا.
لا أحد يعلم يقينا، لكنه رهان على أفضل الحسابات المتوافرة، فرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي يرى أن التضخم المرتفع في الوقت الحالي من المرجح أن يكون عابرا، وعبارة “من المرجح” كافية لتؤكد لنا حجم عدم اليقين الذي تعيشه الولايات المتحدة بشأن هذه الظاهرة، وإذا كان التضخم عابرا، فإن رفع سعر الفائدة في هذه المرحلة قد يقود إلى تراخ واسع في عودة الوظائف، فقد صرح البنك المركزي الأمريكي بأنه سيظل صبورا، ويحاول إعادة الاقتصاد إلى التوظيف الكامل، مكررا القول إنه يريد تجنب ملاحقة التضخم “المؤقت” والإحباط المحتمل لنمو الوظائف خلال هذه العملية.
هكذا هو الرهان الأمريكي بين الوصول إلى قوة للوظائف، وبالتالي عودة مستويات الإنتاج القادرة على امتصاص زيادة الأسعار، وبين تحديد الفترة المناسبة والكافية لذلك، وفي مقابل هذا، فإن “الفيدرالي” يخاطر بسحب التحفيز على أساس أن سعر الفائدة المنخفض حاليا كاف بشكل منفرد لبقاء الزخم الحالي للوصول إلى التوظيف الكامل، وهذه الخطوة تعتمد على ما أبداه الاقتصاد الأمريكي من تقدم مع إضافة نحو من مليون وظيفة، وعلى أساس أنه سيستمر في التقدم لأسباب منها إعادة فتح المدارس، وتخفيف قيود رعاية الأطفال، والعودة إلى الإنفاق الاستهلاكي على الأنشطة التي تشهد تواصلا من قرب.
لكن ماذا لو تم سحب التحفيز بأسرع مما ينبغي، وكانت التوقعات بشأن عودة الوظائف خاطئة، حيث لا يزال فيروس كورونا موجودا وتزامنت هذه الإجراءات والقرارات الأخيرة مع “زيادة انتشار السلالة دلتا”، إلى جانب أن المخاطر الصحية، والاقتصادية التي تشكلها سلالة فيروس كورونا شديدة العدوى قائمة فعليا؟ هنا يجيب “الفيدرالي” عن هذا القلق ويدافع عن قراراته بقوله، “إن تجدد الأزمة الصحية لن يؤدي إلى خروج الانتعاش عن المسار الصحيح”. وتصريح “الفيدرالي” تم وفقا لحالة عدم اليقين، فالأزمة الصحية التي يتوقع المجلس أنها لن تجدد بشكل يغير مسار الاقتصاد أجبرت “الفيدرالي” نفسه على نقل مؤتمره إلى فعالية افتراضية للعام الثاني على التوالي.
وهنا لا بد من القول إن إعلان التضخم في الولايات المتحدة، فتح باب التخوفات من احتمالية طول أمد ارتفاع أسعار المستهلك في أكبر اقتصاد في العالم، في وقت تجتهد فيه جميع دول العالم في استعادة الأنشطة الاقتصادية حول العالم ومحاولة الحد من ارتفاع نسب التضخم. إذن، فالتضخم كحقيقة موجود، وأسبابه الكامنة حتى الآن غير واضحة تماما، فالأزمة الصحية التي أغلقت الاقتصادات العالمية لا تزال تتسبب في مشكلات كبيرة في الشحن العالمي، وأسعار الشحن البحري ترتفع بشكل قياسي، ومعها ترتفع أسعار التأمين، كما أن تداعيات الأزمة الصحية لم تزل حاضرة، والمعركة مستمرة.
فإذا نجح “الفيدرالي” في هذه الخطوة فستتبعه دول عديدة، وإذا أخفق فيها فسيكون أمامه إثبات أنه قادر على التكيف السريع مع الأوضاع المستجدة على الساحة.
![](https://majlis-news.com/wp-content/uploads/2021/08/سحب-التحفيز-ورهانات-التضخم-مجلس-نيوز.jpg)