▪︎ مجلس نيوز
من يصنع الثقافة؟ سؤال يلح علي كثيرا منذ مدة، وفي كل مرة أنوي الكتابة فيه يصرفني عنه موضوع آخر، إما لأهميته القصوى، وإما لارتباطه بحدث آني لا يمكن تأجيله، حتى لا يفتقد الموضوع أهميته بزوال الحدث، وبعد العهد فيه. سألت نفسي كيف لي الإجابة عن هذا السؤال فألفيت أن الواقع المعاش عالميا، وإقليميا، ومحليا من الممكن أن يعطي إجابة، أو مفاتيح الإجابة لهذا السؤال الفلسفي المهم الذي يمكن أن يبنى عليه خطة عمل تسهم في معرفة مصادر التأثير الثقافي على المستوى العالمي، والمستوى الإقليمي، والمحلي.
التأمل في واقع الحال الدولي يكشف لنا أن العالم منذ عقود، بل عبر التاريخ تتحكم في مجرياته بشكل عام، والمجريات الاجتماعية في شقها الثقافي، والفكري ، والتنظيمي، والاقتصادي الأمم التي تملك القوة في حقبة تاريخية معينة، ولعل في اللغة على سبيل المثال لا الحصر أمثلة قوية تدعم هذا التفسير، فالمفردات المتداولة في وطن ليست بالضرورة مشتقة من اللغة الأم لذلك البلد، إذ قد تكون مأخوذة من لغة أخرى، إما بسبب الاحتكاك بين ثقافتي البلدين على شكل تبادل تجاري، وإما نتيجة الجوار والزيارات المتبادلة، أو نتيجة اتفاقية ثقافية، أو سياسية يتم بموجبها تقديم برامج، وخدمات تعليمية، وتدريبية، وعلى سبيل المثال، وليس الحصر كلمة خاشوقة المستخدمة محليا للدلالة على الملعقة في بعض مناطق دول الخليج ليست في الأساس عربية، كما أن كلمة وايت المستخدمة في المملكة للإشارة إلى شاحنة نقل المياه ليست عربية، بل هي إنجليزية استخدمتها أرامكو في بدايات عملها في المملكة للتمييز بين شاحنة نقل البترول، وشاحنة نقل الماء بيضاء اللون، في سويسرا لاحظت وجود كلمة تعريفة على عدادات وقوف السيارات في الشوارع، وما من شك بالأصل العربي للكلمة، لكن كيف وصلت هناك؟ هل نتيجة ترجمة لأحد الباحثين، أم إبان فترة الدولة العثمانية، وخضوع الكثير من الدول الأوروبية لها.
ومن العوامل الأساسية وقوع بلد لنفوذ بلد آخر، على شكل استعمار، أو اتفاقية ثقافية، وتعليمية، أو اقتصادية يقدم فيها الوطن الأقوى برامج تعين الآخر في المجالات التي يحتاج إليها. في حديث مع أحد مواطني الدول الإفريقية الفقيرة ذكر لي أن إيران سارعت قبل 20 عاما لإنشاء مركز تدريب مهني، ومركز ثقافي يعنى بإعادة التنشئة الفكرية، والثقافية لأبناء ذلك الوطن الذي رحب بالمساعدة الإيرانية لحاجته الماسة إليها، وفي اعتقادي أن الاستجابة الإيرانية جاءت من أجل تحقيق أطماع سياسية كعادة طهران في تدخلاتها المخلة والمستفزة بالاستقرار في أي بلد تدخل إليه ضمن ما يمكن تسميته استراتيجية بسط النفوذ، والهيمنة الثقافية ذات الأبعاد الفكرية والمعتقدات الدينية التي تمهد لما بعدها، ومع بعد ذلك الوطن الفقير إلا أن سياسة قضم الأطراف تحقق مكاسب معنوية، وسياسية تسهم في تسهيل الهيمنة على دول الجوار، وهذا ما حدث بالفعل.
في التأمل على المستوى العالمي لا يمكن إنكار القوة التي تمتلكها الدول الغربية، وما نتج عن ذلك من انتشار لرموز، ومؤشرات ثقافتها في اللغة، واللباس، والأكل، ونمط الحياة، والقوة المعنية في هذا المقام القوة العسكرية، والاقتصادية، والتقنية والإعلامية، والبراعة السياسية، وهذه القوة لم تأت من فراغ فجزء منها يعود إلى الحقبة الاستعمارية، وما تركته من أثر في العقول، والأنظمة، والمؤسسات الإعلامية، والمنظومة السياسية، وولاء البعض المطلق للمستعمر حتى بعد رحيله كما يظهر في الدفاع عن لغته، وإرثه كافة، كما ينادي به بعض مواطني المستعمرات الفرنسية، وكذا الأوطان التي خضعت للاستعمار الإنجليزي. إن مفردات مثل استراتيجية، ليبرالية، موبايل، بنزين، ديزل جاءت نتيجة النمو المعرفي التطبيقي الذي أوجد منتجات تخدم الإنسان أينما كان.
القوة المشار إليها آنفا لم تأت من فراغ بل إن امتلاك القوة المعرفية، والطروحات الفلسفية يمثل الأس الذي قامت، وتقوم عليه حضارات الأمم، وبه يتم البناء، والتطوير، والتقدم، ولتأكيد دور العلم، والمعرفة التأثير الذي أحدثته الحضارة العربية، والإسلامية في تطورها العلمي وانتشار حتى أن الدكتور سليمان أبو غوش وجد أن هناك عشرة آلاف كلمة في اللغة الإنجليزية أصلها عربي وعلى سبيل المثال لا الحصر أدميرال، كاميرا، الجبر، الخوارزميات، وفي اللغة الإسبانية يستخدمون كلمة قميص … إلخ. إن من يمتلك ناصية العلم يصنع الثقافة ويفرضها بصورة تلقائية من خلال تبني الآخرين لها.