▪︎ مجلس نيوز
عاد جزء كبير من أستراليا إلى حالة ملازمة المنزل بسبب الجائحة. انطلقت في طوكيو ألعاب الأولمبياد يوم الجمعة في ظل حالة طوارئ. اضطرت هولندا إلى إعادة فرض القيود على المقاهي والحياة الليلية. وتحطمت آمال إسبانيا في إعادة إحياء السياحة بعد صدور تحذيرات جديدة حول السفر. ويجب على الإيطاليين إظهار بطاقة صحية إذا كانوا يريدون مشاهدة فيلم أو السباحة، بعد أن حذا رئيس الوزراء ماريو دراجي حذو فرنسا واتخذ خطوات لحث الناس على تلقي اللقاح.
عودة القيود غير المرحب بها زرعت خوفا جديدا في عقول المستثمرين: الانتشار السريع لسلالة فيروس كورونا المتحور، دلتا، قد يوقف الانتعاش العالمي بشكل كبير.
قبل عشرة أيام فقط، كانت الأسواق تركز على مخاطر التوسع غير المستدام للاقتصادات الذي يؤدي إلى زيادة التضخم – ما زاد الضغط على صانعي السياسات للتفكير في سحب مبكر للتحفيز المالي المرتبط بالجائحة. لكن هذا الأسبوع بدأ بعمليات بيع كبيرة في أسواق الأسهم العالمية حيث تزايدت المخاوف من انتشار المتحور دلتا. وبحلول منتصف الأسبوع انتعشت أسعار الأسهم – فيما لا تزال عوائد سندات الخزانة الأمريكية في مستويات متدنية جدا، ما يثير شكوكا حول قوة الانتعاش العالمي.
كان التغير سريعا للغاية، لدرجة أن أي شخص كان يتابع التقلبات في السوق العالمية خلال الأسبوعين الماضيين قد يعاني صداعا شديدا.
كتب أجاي راجادياكشا، وهو محلل في بنك باركليز: “يبدو أن السرد قد تغير مع انتشار المتحور دلتا من ’أنظر إلى ارتفاع التضخم‘ إلى ’انظر إلى تباطؤ النمو‘”. في الوقت نفسه يقول ألان روسكين، كبير الاستراتيجيين الدوليين في دويتشه بنك، إن الوضع أظهر مرونة طلب المستثمرين على الأصول الخطرة – لكنه أحبط في الوقت نفسه “وجهة النظر الجماعية السابقة القائلة إن العالم سينتعش على نحو متزامن”.
الارتفاع في حالات الإصابة بفيروس كورونا المرتبطة بالسلالة الأكثر عدوى من الفيروس أعاد المخاوف حول الصحة العامة إلى الواجهة، تماما عندما بدا أن نهاية الجائحة تلوح في الأفق بالنسبة لبعض الدول – وقد أجبرت حكومات حول العالم على إيقاف، أو عكس خطط إعادة فتح دولها.
يقول جريجوري داكو، كبير الاقتصاديين في شركة أكسفورد إيكونوميكس الاستشارية، “إنها مخاطرة نركز عليها أكثر فأكثر”، محذرا من احتمال أن يؤدي ذلك إلى انتعاش عالمي غير متساو “مع احتمال تراجع بعض الاقتصادات في بيئة من القيود الاجتماعية المشددة وتدابير التباعد الاجتماعي”.
كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، عكست هذا القلق يوم الخميس، حين قالت إن المتحور دلتا كان “مصدرا متناميا للشكوك” وقدمت تعهدا جديدا من قبل البنك المركزي بأن يكون أكثر تسامحا مع التضخم قبل رفع أسعار الفائدة.
وقد أثبتت المملكة المتحدة أنه حتى مع المعدلات العالية لمتلقي اللقاح والقرار السياسي بتحمل معدلات عالية من العدوى، لا توجد طريقة سهلة لتجنب الاضطراب الاقتصادي إذا ما استحكم المتحور دلتا. ومع انتهاء قوانين التباعد الاجتماعي في البلاد الأسبوع الماضي، وجد مئات الآلاف من العاملين أنفسهم مجبرين على ملازمة المنزل لعزل أنفسهم بعد اختلاطهم مع شخص ثبتت إصابته بالفيروس – تاركين الحكومة تجاهد لتفادي إغلاق الخدمات العامة.
لكن على الرغم من المخاطر المتنامية التي يشكلها المتحور دلتا على التوقعات العالمية، يعتقد صناع السياسات والاقتصاديون أن تأثيره سينحصر في الأرجح في تثبيط الانتعاش في الاقتصادات الكبرى بدلا من إخراجه عن مساره، حيث أضعفت برامج اللقاح الارتباط بين العدوى والدخول إلى المستشفيات.
تقول جينيفر ماكيون، من شركة كابيتال إيكونوميكس الاستشارية، إن هناك بعض العلامات على أن الناس أصبحوا أكثر حذرا بشأن الخروج في المملكة المتحدة – مع تباطؤ الاتجاه المتزايد لرحلات التسوق والترفيه والعمل الذي يشجعه الرفع التدريجي للقيود ـ حيث يحاول الناس تفادي ملازمة المنزل الإجبارية تماما مع بدء موسم الأعياد.
وتشير نتائج استطلاعات إلى أن النقص في الموظفين والمواد بدأ التأثير في النشاط الاقتصادي. لكن حتى في الولايات المتحدة، لا يزال المستهلكون ينفقون والشركات تتدافع لتوظيف العاملين.
وفي تموز (يوليو) نمت معدلات النشاط الاقتصادي في منطقة اليورو إلى أعلى معدلاتها منذ 21 عاما، حيث استمر كثير من الدول في رفع قيود كوفيد – 19. ولم يؤد انتشار الحالات الجديدة إلى ضعف ثقة المستهلكين.
قالت لاجارد إن استطلاعات الأعمال والبيانات الثابتة أكدت توقعات البنك المركزي الأوروبي لحزيران (يونيو)، التي افترضت أن بعض إجراءات الإغلاق ستستمر حتى نهاية العام. كتبت على “تويتر”، “انتعاش منطقة اليورو يسير على الطريق الصحيح، لكننا لم نخرج بعد من الأزمة”.
تركيز التضخم في الولايات المتحدة
تبقى مخاوف ارتفاع الأسعار نتيجة زيادة الطلب على العرض والتضخم المفرط هي المسيطرة في الولايات المتحدة. أجاب جاي باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، خلال يومين من جلسات الاستماع في الكونجرس على أسئلة من المشرعين حول إدارة البنك المركزي وتقييم الأسعار المرتفعة أكثر بكثير من الأسئلة المتعلقة بالتأثير الاقتصادي للمتحور دلتا.
لدى الولايات المتحدة حاجز وقاية كبير لامتصاص الضربة الجديدة المرتبطة بفيروس كورونا دون الغوص في الركود مرة أخرى. وتوقع مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي في حزيران (يونيو) أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي 7 في المائة هذا العام، مع انخفاض معدل البطالة بحلول نهاية 2021 إلى 4.5 في المائة – بعد أن اقترب من 15 في المائة عند ذروة الجائحة.
بحسب جيسون فورمان، الأستاذ في جامعة هارفارد والمستشار الاقتصادي السابق لباراك أوباما، من الصواب القلق بشأن المتحور دلتا، إلا أنه لا ينبغي أن يغير مشهد الاقتصاد الكلي. ويرى أن هذا يرجع إلى أن الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بالعدوى في الولايات المتحدة – الذين اختاروا عدم تلقي اللقاح – هم أيضا الأقل احتمالا لتغيير سلوكهم، مضيفا أن الولايات الأكثر حاجة لقواعد التباعد الاجتماعي الجديدة “هي الولايات صاحبة المعدلات الأقل في تلقي اللقاح وهي الأقل احتمالا لتطبيق هذه القواعد”.
مع ذلك، حتى في الاقتصاد الأمريكي المزدهر، حيث تتضح ضغوط الأجور بشكل متزايد، فإن انتشار “دلتا” قد يجعل واضعي أسعار الفائدة الفيدرالية أكثر حذرا بشأن الخروج المبكر من التحفيز.
إذا تدهور وضع فيروس كورونا أكثر في الأشهر المقبلة، فسيشكل ذلك معضلة كبيرة لصانعي السياسات في الولايات المتحدة، لأنهم كانوا يتجهون نحو إزالة التحفيز المالي والنقدي، بدلا من الحفاظ عليه أو تعزيزه.
وحذر بعض مسؤولي بنك الاحتياطي الفيدرالي من أن البنك المركزي يحتاج إلى أن يتكيف مع خطر الانتكاسة الاقتصادية الناجمة عن تفشي فيروس كورونا الجديد. قالت ماري دالي، رئيسة بنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو، لـ”فاينانشيال تايمز” في أوائل تموز (يوليو)، “أعتقد أن أحد أكبر المخاطر على النمو العالمي في المستقبل هو أن نعلن الانتصار المبكر على كوفيد”.
لكن داكو، من “إكسفورد إيكونوميكس”، يقول، “إن الإقبال على مصدات مالية قوية أو حواجز واقية قوية للسياسة النقدية أقل بكثير مما كان عليه قبل عام. لذا فإن هذا يطرح السؤال عن مدى مرونة الاقتصاد الأمريكي دون الدعم المالي، ودون الدعم النقدي”.
رياح معاكسة قوية
يؤدي انتشار المتحور دلتا أيضا إلى تعقيد النقاش السياسي في الدول الأخرى. ففي المملكة المتحدة، فاجأت القوة الأخيرة للتضخم بنك إنجلترا، ما دفع واضعي أسعار الفائدة للتلميح إلى أنهم قد يصوتون من أجل إنهاء مبكر للتسهيل الكمي. لكن آخرين في لجنة السياسة النقدية تبنوا وجهة نظر أكثر دقة – بما في ذلك جوناثان هاسكل، عضو خارجي، الذي قال الأسبوع الماضي إن العودة إلى السياسة المتشددة “ليس صحيحا” في الوقت الحالي، لأن الاقتصاد واجه رياحين معاكستين – “المتحور دلتا واسع الانتشار وتشديد الموقف المالي”.
وعلى الرغم من التوقعات سريعة التحسن في منطقة اليورو، ليس هناك أي ضغط فوري لتشديد السياسة. وتظهر توقعات البنك المركزي الأوروبي أن التضخم لا يزال أقل من هدفه الجديد والأكثر طموحا البالغ 2 في المائة بحلول نهاية عام 2023.
وعلى النقيض من التقلبات في أماكن أخرى، شهدت آسيا تقلبا ضئيلا نسبيا في التوقعات الاقتصادية، حتى عندما ترسخ المتحور دلتا في بعض الدول. البداية البطيئة نسبيا للتطعيم، جنبا إلى جنب مع حزم التحفيز المالي الأصغر، تعني أنه لم تكن هناك لحظة مماثلة بدا فيها الانتعاش المزدهر وزيادة الطلب على العرض أمرا ممكنا.
وبالرغم من الحديث عن حقبة تضخمية عالمية جديدة فإن بنك اليابان، مثلا، لن يصل إلى هدف التضخم البالغ 2 في المائة في المستقبل القريب، وبالتالي لن ترتفع أسعار الفائدة. في الواقع تضاءلت توقعات الانتعاش الياباني مع ارتفاع حالات كوفيد – 19، ما أدى إلى الحديث عن جولة جديدة من التحفيز المالي.
كما أن الاقتصاديين أقل تفاؤلا بشأن التوقعات بالنسبة للاقتصادات المتقدمة الأخرى حيث تأخرت حملات التطعيم – من بينها أستراليا ونيوزيلندا – ويتسابق صانعو السياسات الآن في نشر حملات التطعيم قبل أن يتفوق عليهم المتحور دلتا.
سياسة الصين بعدم التسامح مطلقا مع عدوى فيروس كورونا سمحت لها ببدء تعافيها الاقتصادي قبل وقت طويل من الولايات المتحدة، لكنها الآن توجد عقبات كبيرة أمام إعادة الافتتاح بالكامل – لأن السلطات تفرض قيودا على السفر أو تغلق الأحياء كلما ظهرت حالات جديدة. يقول لاري هو، وهو خبير اقتصادي في مجموعة ماكواري، “إن هذا يؤثر سلبا في الاستهلاك لأن من الصعب عمليا على الصين إبقاء حالات الإصابة بالفيروس عند الصفر”.
وبالرغم من أن النمو في الربع الثاني فاق توقعات معظم الاقتصاديين، إلا أن بكين حذرت من انتعاش “غير متوازن” ومن المخاطر الناجمة عن متحورات كوفيد – 19. ويشير محللون إلى معوقات أخرى للنمو، بما في ذلك النقص العالمي في الرقائق، وارتفاع مخاطر الائتمان المحلي، وانخفاض الاستثمار في البنية التحتية المدعومة من الدولة، وحظر الإدارة الأمريكية للاستثمار في التكنولوجيا الصينية.
وتعد الاقتصادات الناشئة في آسيا وإفريقيا هي الأكثر عرضة إلى حد بعيد لانتشار “دلتا”، حيث ترتفع معدلات الوفيات إلى أعلى مستوى لها منذ بداية الجائحة، ولدى صانعي السياسات قدرة محدودة على فرض عمليات إغلاق جديدة أو دعم النمو.
سلطت جيتا جوبيناث، كبيرة الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، الضوء في الأسبوع الماضي على “الاختلاف الخطير” بين الاقتصادات المتقدمة وعديد من الدول الناشئة والنامية التي تعاني محدودية في الوصول إلى اللقاحات، وتضاؤلا في الدعم المالي السريع، وتواجه بالفعل ارتفاعا سريعا في أسعار الفائدة نتيجة لأحاديث عن خروج الاحتياطي الفيدرالي تدريجيا من برامج التحفيز المالي.
كاترين مان، التي استقالت لتوها من منصب كبير الاقتصاديين في بنك سيتي للانضمام إلى لجنة السياسة النقدية التابعة لبنك إنجلترا، تجادل بأن الحظوظ المتباينة للاقتصادات المتقدمة – وحتى الآنقسامات الأكثر حدة بين الاقتصادات الناشئة – تجعل الانتعاش العالمي أكثر هشاشة وهو ما توحي به التوقعات الرئيسة.
أبلغت لجنة برلمانية في المملكة المتحدة الأسبوع الماضي أن “كثيرا من الناس ينظرون إلى معدلات نمو عالمية تبلغ الآن 6 في المائة ويعتقدون أن هذا رائع”. أضافت أن معدل النمو هذا كان من المقرر بالفعل أن يتباطأ بشكل كبير بحلول العام المقبل – وهو يعتمد الآن بشكل متزايد على التعافي المستدام للولايات المتحدة، وعرضة للاضطرابات في الأسواق الناشئة.
قالت للنواب، “مع فهم التحديات والمخاطر المرتبطة بفيروس كوفيد، اعتقدنا جميعا أننا أقرب إلى الضوء في نهاية النفق، لكن هذه الطفرات الإضافية ولدت بالفعل بعض القلق (…) ويلمح ذلك إلى انخفاض النمو في الأسواق الناشئة. (وهي) جزء كبير جدا من الاقتصاد العالمي”.