▪︎ مجلس نيوز
تعامل عديد من البلدان الإفريقية مع الموجة الأولى من وباء كورونا وآثارها السلبية في الصحة العامة، بصورة جيدة، مقارنة بقارات أخرى أكثر تطورا اقتصاديا. بالطبع يعود الفضل في ذلك إلى الإجراءات السريعة، التي اتخذت من قبل المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، إضافة إلى الوضع المجتمعي العام، حيث تتميز القارة السمراء بالطابع الشبابي لسكانها، ولا يمثل من تزيد أعمارهم على 65 عاما أكثر من 3 في المائة من إجمالي السكان، إلى جانب طبيعة القيم الاجتماعية السائدة، التي لا تشجع على وضع كبار السن في مؤسسات رعاية المسنين.
ووفقا للخبراء في المجال الصحي لعبت عوامل أخرى دورا بارزا أيضا في مساعدة القارة السمراء في تعاملها الإيجابي مع الوباء من بينها طبيعة المناخ، والتعرض في فترات ماضية لسلالات سابقة من فيروس كورونا، إضافة إلى شبكات الصحة العامة، التي أنشئت من قبل المجتمع الدولي في العقود الماضية للاستجابة السريعة واحتواء الأوبئة من قبيل الإيبولا، جميع تلك العوامل لعبت دورا مهما في كيفية احتواء القارة للوباء.
لكن هذا لا ينفي أن عديدا من البلدان الإفريقية ستتأثر بشكل خطير بالعواقب الاجتماعية والاقتصادية جراء تباطؤ الاقتصاد العالمي الناجم عن الوباء، خاصة أن عدد البلدان الإفريقية المثقلة بأعباء الديون والضغوط المالية كان في تزايد قبل الجائحة، وفي ظل تلك الأوضاع يتوقع عديد من الاقتصاديين أن تصبح الديون الإفريقية مصدر قلق عالميا هذا العام، وربما العام المقبل، خاصة أن عديدا من تلك البلدان الإفريقية تدخل ضمن الأفقر عالميا والأكثر هشاشة اقتصاديا، كما أنها تضررت بشكل ملحوظ من التكلفة المالية، التي تحملتها لمواجهة الوباء.
وعلى الرغم من تحسن الأفق المستقبلي لمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى منذ شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، إلا أن المنطقة تعرضت لانكماش اقتصادي خلال العام الماضي 1.9 في المائة، وهو أسوأ أداء اقتصادي لها على الإطلاق، كما ستكون المنطقة الأبطأ نموا في العالم هذا العام، وسيتطلب الأمر أربعة أعوام من الآن حتى يصل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في عديد من بلدان القارة السمراء مستويات ما كان عليه قبل الجائحة، ولذلك من المتوقع أن تتسع الفجوة أكثر خلال الأعوام الخمسة المقبلة بين النمو في إفريقيا جنوب الصحراء وبقية العالم.
ولا شك أن السعودية لعبت الدور الرئيس خلال ترؤسها لمجموعة العشرين في صياغة المبادرة المتعلقة بتأجيل خدمة الدين، التي تضم 40 دولة إفريقية من أقل البلدان نموا، والتي بفضلها تم تعليق السداد.
وبفضل تلك الجهود السعودية تم تأجيل 5.4 مليار دولار من الديون الإفريقية المستحقة العام الماضي، وذلك من 13.6 مليار دولار من الفوائد وأصل الدين المستحقة على دول إفريقيا جنوب الصحراء لدائنين ثنائيين.
وقال لـ”الاقتصادية” الدكتور لويس مايلتون، الخبير في الاقتصاد الإفريقي والاستشاري في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، “لدعم النمو المستقبلي في البلدان الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى ستكون هناك حاجة إلى مساعدة دولية لتلبية 245 مليار دولار من احتياجات التمويل الخارجي على مدى الأعوام الخمسة المقبلة، والآن تم تمديد مبادرة مجموعة العشرين لخدمة الديون حتى نهاية العام، وبرنامج حقوق السحب الخاص التابع لصندوق النقد الدولي سيوفر نحو 23 مليار دولار للمساعدة في تعزيز السيولة”.
ويضيف “معدل النمو المتوقع في اقتصادات إفريقيا جنوب الصحراء سيبلغ 3.4 في المائة مدعوما بالانتعاش العالمي، وزيادة التجارة، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، واستئناف تدفقات رأس المال، وسينمو نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بين 2020 و2025 في حدود 3.6 في المائة، وهو أقل بكثير مما هو عليه في بقية العالم، إذ تبلغ 14 في المائة”.
ومن المؤكد أن أزمة كورونا ستترك ندوبا طويلة الأمد على اقتصادات إفريقيا جنوب الصحراء، وستؤدي إلى تراجع عن أعوام سابقة من التقدم الاقتصادي، ومن المتوقع ازدياد عدد الأشخاص، الذين يعيشون في فقر مدقع، كما سيتراجع مستوى الدخل، كل هذا يدفع إلى سؤال بسيط، ما العمل؟
ترى الدكتورة إيملي مالتون أن إيجاد مساحة للتعافي الاقتصادي يتطلب من الحكومات المحلية والمجتمع الدولي العمل المشترك لاستعادة التوازن المفقود في الميزانيات العامة والخاصة، فالدين العام يقدر الآن بأكثر من 66 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي أي أعلى مما كان عليه قبل 15 عاما.
وتقول لـ”الاقتصادية” إنه “على الرغم مما تبدو عليه الصورة العامة من ضعف وتضعضع في الهياكل الاقتصادية في إفريقيا جنوب الصحراء، فإن القارة السمراء لا تزال تمثل بيئة خصبة وثرية للاستثمارات العالمية، وإطلاق العنان لإمكاناتها الهائلة يتطلب إصلاحات جريئة وخططا استثمارية طموحة مدعومة من البلدان الثرية، فكل يوم يتصل أكثر من 90 ألف مستخدم جديد في إفريقيا جنوب الصحراء بالإنترنت لأول مرة، واستفادة القارة السمراء من الثورة الرقمية سيعزز مرونتها الاقتصادية، ويسهم في دمجها في الاقتصاد الدولي، ويعزز إمكانية إيجاد فرص عمل جديدة”.
وتعتقد الدكتورة إيملي أن أحد أبرز نقاط القوة لدى الاقتصادات الإفريقية على الأمد الطويل- إذا أحسن استخدامها- تلك القاعدة العريضة من المجتمع الشباب، الذي يسود في أغلب إن لم يكن جميع بلدان القارة، حيث يدخل سنويا 20 مليون باحث جديد إلى سوق العمل.
من هذا المنطلق يعتقد بعضهم أن العام الجاري سيشهد تنافسا اقتصاديا متزايدا على إفريقيا، يمتد من إلغاء الديون إلى مد بلدان القارة باحتياجاتها من اللقاح. كما أنها ستكون موضع تركيز أمريكي أكبر في ظل إدارة بايدن، ويبدو هذا الاهتمام في عديد من القمم الدولية، التي ستعقد هذا العام لبحث الأفق الاقتصادية للقارة، وتركز تلك المؤتمرات في الأساس على التجارة والاستثمار.
وتشير الإحصاءات الدولية إلى أن صادرات إفريقيا جنوب الصحراء من البضائع، التي تبلغ 338 مليار دولار سنويا، يتوجه خمسها فقط إلى بلدان داخل المنطقة، ما يكشف عن ضعف شديد للتجارة البينية، وهو ما يجعل من تنفيذ منطقة التجارة الحرة في القارة قضية حاسمة لتوسيع نطاق تعاونها، ومن ثم تطورها الاقتصادي، حيث تسهم تلك المنطقة الحرة في خفض تعرض إفريقيا لهزات الاقتصاد العالمي، كما ستعزز المنافسة الإقليمية وتساعد على تحسين الإنتاجية وجذب الاستثمارات الأجنبية.
من جهته، يقول لـ”الاقتصادية” جوزيف كورنود الخبير الاستثماري والاستشاري لعدد من صناديق التحوط، “الفرصة الآن سانحة وملائمة للاستثمار في إفريقيا أكثر من أي وقت مضى. بالطبع توجد مخاطر ولكن الأعمال التجارية والفرص الاستثمارية مزدهرة، ونتيجة الأوضاع الاقتصادية السلبية جراء أزمة كورونا. والحكومات الوطنية راغبة بشدة في اكتساب ثقة المستثمرين من أجل كسب ثقة أسواق رأس المال العالمية”.
ويضيف “ولذلك فإن النظرة السليمة للاستثمار في إفريقيا هي التعامل معها على أساس أن الاستثمار في القارة السمراء ماراثون استثماري وليس سباقا قصير المدى، فالراغبون في الاستثمار عليهم صياغة استراتيجيات استثمارية طويلة الأمد، لضمان ازدهار القارة، ومن ثم ضمان تحقيق استثماراتهم عوائد مرتفعة على الأمد الطويل”.