▪︎ مجلس نيوز
في بداية العام، أطلقت الحكومة الألمانية بهدوء نظاما جديدا لتسعير الكربون يمكن أن يحدث ثورة بخصوص الجهة التي ستقع عليها تكلفة التلوث في أوروبا.
منذ يناير فرضت ألمانيا، أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، ضريبة فعلية بقيمة 25 يورو لكل طن من الكربون على البنزين والديزل وزيت التدفئة والغاز، بهدف زيادة تكلفة الطاقة القذرة وتحفيز سبل العيش الأكثر مراعاة للبيئة. وهذا يعني أن ملايين الألمان سيدفعون مبالغ أكبر في مضخات البنزين وفواتير التدفئة.
تعمل تجربة ألمانيا المعروفة باسم المخطط الوطني لتجارة الانبعاثات، على الاستعانة بالمستهلكين لمساعدة البلاد على تحقيق أهدافها الصارمة لخفض الانبعاثات.
نموذج تسعير الكربون الألماني قد ينتشر قريبا في جميع أنحاء أوروبا. تستخدمه بروكسل كمخطط لخططها لتوسيع مخطط تداول الانبعاثات -سوق تسعير الكربون- ليشمل قطاعات اقتصادية هذا الصيف كجزء من هدفها المتمثل في أن تصبح أول قارة خالية من الانبعاثات في العالم بحلول عام 2050.
يتفق علماء المناخ وعلماء الاقتصاد إلى حد كبير على أن وضع سعر باهظ على ثاني أكسيد الكربون -باستخدام نظام تحركه السوق أو مزيد من ضرائب الكربون الخام- وسيلة لا غنى عنها لتشجيع المستهلكين والشركات على التحول إلى طرق عيش صديقة للبيئة.
أشاد فرانس تيمرمانز، نائب رئيسة المفوضية الأوروبية للصفقة الخضراء بأداة تسعير الكربون في أوروبا باعتبارها حجر الزاوية في أجندة الاتحاد الأوروبي البيئية لأنها ناجحة للغاية. يقول: “لقد حددت سعرا للكربون، وهي أداة تحفيز ضخمة ومن الواضح أننا بحاجة إلى توسيعها”.
لكن حتى قبل طرح المشروع الجديد، فإنه يولد عاصفة من المعارضة. بالنسبة لعدد متزايد من حكومات الاتحاد الأوروبي وبعض الناشطين في مجال البيئة، تخاطر طموحات بروكسل بإلقاء مزيد من أفقر سكان أوروبا في فقر الطاقة بجعلهم يتحملون عبء اندفاع الكتلة نحو الصفر الصافي.
ويخشون أنه دون نظام مصاحب للإعانات الحكومية الجماعية والتعويضات المالية، فإن تسعير الكربون سيكون أداة رجعية ستعاقب الملايين من أفقر العائلات في أوروبا التي تعيش في مساكن مستأجرة أو اجتماعية وعالقة بالسيارات التي تعمل بالبنزين -في النهاية ما يعمل على تقويض دعم الجمهور لأهداف الاتحاد الأوروبي المناخية الطموحة.
السياسيون الأوروبيون مدركون بشكل حاد للتجربة الفرنسية، عندما أثارت خطة الرئيس إيمانويل ماكرون لعام 2018 بشأن زيادات ضرائب البنزين حركة احتجاج السترات الصفراء. كانت الآثار العكسية السياسية عنيفة لدرجة أنه لا يزال من غير المؤكد أن تمضي بروكسل قدما في الخطة.
يقول باسكال كانفان، عضو البرلمان الأوروبي ورئيس لجنة البيئة في البرلمان الأوروبي: “في الوقت الحالي الأشخاص المتأثرون بشكل مباشر بسعر الكربون في أوروبا هم بضعة آلاف من الشركات وليس ملايين الأشخاص”. ويحذر من أن بروكسل سيتعين عليها تقديم طرق لتخفيف الضرر على المستهلكين الذين يواجهون فواتير كهرباء أعلى، أو المخاطرة بصدمة اقتصادية كبيرة للأسر الأشد فقرا.
دفع ثمن الانتقال
في قلب حملة الاتحاد الأوروبي لخفض الانبعاثات، يكمن مستقبل نظام تداول الانبعاثات في أوروبا، الذي يغطي القطاعات التي تمثل نحو 40 في المائة من انبعاثات الكتلة. في يوليو ستقترح المفوضية الأوروبية توسيع نظام تداول الانبعاثات ليشمل القطاعات التي تواجه المستهلكين مثل شركات صناعة السيارات والمباني -وهو إصلاح من شأنه أن يكون صورة عن النموذج الألماني ويمثل تغييرا جذريا في تسعير الكربون الذي تحركه السوق وتراقبه الدول الغنية حول العالم.
العواقب الاجتماعية لتوسيع النظام تعني أنه يتبين من الآن أن الإصلاح المقبل أحد أكثر الأجزاء حساسية وتنازعا في أجندة إزالة الكربون الجذرية للاتحاد الأوروبي. يقول كلود تورمز، وزير البيئة في لوكسمبورج: إن حكومته ستعارض أي تمديد لتغطية السيارات والمباني لأنه يخاطر بمعاقبة الشرائح ذات الدخل المنخفض من السكان.
في قمة عقدت في بروكسل في مايو، قادة الاتحاد الأوروبي من دول أوروبا الشرقية الفقيرة حذروا من أن مواطنيهم الذين لا يستطيع كثير منهم تحمل تكاليف التخلص من سياراتهم التي تعمل بالديزل أو تبديل أنظمة التدفئة في أماكن الإقامة المستأجرة سيعانون الآثار السيئة.
لدى الحكومات الأوروبية أسباب للخوف من رد الفعل المجتمعي. كشفت مظاهرات السترات الصفراء الفرنسية عن الإجماع الشعبي الهش الذي غالبا ما يدعم أهداف الانبعاثات الجذرية ولا سيما إذا كان ينظر إليها على أنها تستهدف بشكل غير متناسب الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط حتى في الاقتصادات الغنية نسبيا.
قال مارك روته، رئيس الوزراء الهولندي بعد قمة مايو في بروكسل: “يتعين علينا القيام بالتحول الأخضر بطريقة تمكن جميع مستويات الدخل من الحفاظ على أسلوب حياتها. إذا رفعنا التكاليف بسبب الخطط الموضوعة في بروكسل أو لاهاي، فسنفقد الدعم لما نقوم به. من الأهمية بمكان أن يسير المجتمع معنا على الطريق”.
الجدل حول مستقبل نظام تداول الانبعاثات يصيب الأسئلة الأساسية التي تقع في قلب الأجندة الخضراء لأوروبا: من الذي سيدفع تكاليف الانتقال، وكيف؟
نظام تداول الانبعاثات في أوروبا، الذي أنشئ عام 2005، أنشأ سوقا لانبعاثات الكربون من أجل تحفيز كبرى شركات الطاقة لتقليل انبعاثات الكربون عن طريق إجبارها على شراء أرصدة تغطي انبعاثاتها.
الشركات التي تلوث أكثر من حصتها المخصصة تحتاج إلى شراء مزيد من الائتمانات، وأقل إذا كان لديها انبعاثات منخفضة. في العام الماضي، تكلفة التلوث التي حددها النظام حلقت عاليا بنسبة 60 في المائة لتصل إلى مستويات قياسية تزيد على 53 يورو للطن من الكربون في الشهر الماضي حيث راهن المستثمرون على أن الاتحاد الأوروبي سيحقق نتائج جيدة على هدفه للصفر الصافي لعام 2050.
بروكسل، التي من الناحية العملية تتحكم في توريد الائتمانات عن طريق تحديد مخصصات للقطاعات وسقف إجمالي للانبعاثات، تقدر أن السعر يجب أن يصل إلى أكثر من 60 يورو للطن لتلبية الهدف المعدل لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 55 في المائة بحلول 2030، بناء على مستويات عام 1990.
في حالة استمرار الإصلاح، فإنه سيحول نظام تداول الانبعاثات من أداة سوق مقصورة على فئة معينة مصممة لفرض سعر باهظ على الطاقة القذرة مثل الفحم، إلى نظام سيحدد سعرا فعليا للكربون على الشركات التي تمثل نحو ثلاثة أرباع انبعاثات الاتحاد الأوروبي.
يقول مسؤول كبير في الاتحاد الأوروبي: إن القرار النهائي بشأن المضي قدما في التوسع سيتم اتخاذه في اللحظة الأخيرة بالنظر إلى النطاق المحتمل للمعارضة من الدول الأعضاء. هذا الشهر قالت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية: إن بروكسل تخطط لتقليل الاضطراب الأولي من نظام التداول من خلال إنشاء مخطط أصغر يغطي السيارات والمباني فقط. سيكون العنصر الحاسم هو المستوى الذي يتم عنده تحديد سعر الكربون في النظام الموازي، حيث قال أحد المسؤولين: من المحتمل أن يكون أقل بشكل مريح من السعر الحالي في النظام.
تشير تجربة ألمانيا إلى أن شركات صناعة السيارات وشركات البناء ستقوم بتحميل حتى التكاليف المتواضعة لثاني أكسيد الكربون على المستهلكين. سيؤدي سعر الكربون في ألمانيا البالغ 25 يورو إلى زيادة تكلفة لتر الديزل بمقدار 0.08 يورو، والبنزين بمقدار 0.07 يورو و159 يورو على استخدام 2000 لتر سنويا من زيت التدفئة، وفقا لاتحاد المنظمات الاستهلاكية الألمانية VZBV.
في المتوسط ، سيعني النظام أن الأسرة المكونة من أربعة أفراد ولديها سيارة تعمل بالبنزين والتدفئة التي تعمل بالغاز ستدفع 204 يوروات إضافية سنويا في عام 2021، وترتفع إلى 451 يورو عام 2025 عندما من المتوقع أن يرتفع سعر الكربون إلى 55 يورو طن.
يقول توماس بوبينجر، مسؤول سياسة الاتحاد الأوروبي في VZBV إن النظام رجعي لأن الأسر الفقيرة غالبا ما تكون عالقة في الأنشطة القائمة على الوقود الأحفوري ويتعين عليها أن تتحمل تكاليف الكربون. ويضيف: “أصحاب الدخل المنخفض ليس لديهم بالضرورة المال للاستثمار في كفاءة الطاقة. لا يمكنهم ببساطة تقليل استهلاكهم باختيار عدم قيادة سياراتهم أو تشغيل غسالاتهم. لا يمكن للمستأجرين تبديل أنظمة التدفئة أو عزل جدرانهم”.
كانت هناك مؤشرات قليلة على حدوث رد فعل عنيف في ألمانيا رغم أن بوبينجر يقول: من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان النظام ناجحا. ويضيف: “مرت خمسة أشهر منذ إدخال التسعير وعادة ما يحصل الناس على فواتير التدفئة في وقت لاحق من العام”.
التكاليف الصريحة
في بروكسل، كان ينظر إلى نظام التداول كبديل أكثر قبولا لفرض ضرائب مباشرة على الكربون التي قاومها الناخبون الذين يخشون أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع تكاليف المعيشة.
كما أنه ينظر إلى ارتفاع تكلفة أرصدة الكربون خلال العام الماضي على أنه تصويت على الثقة في نظام تداول الانبعاثات حيث تخاطف المستثمرون أذون التداول، مراهنين على أن قيمتها سترتفع إذا توسع النظام ليشمل مزيدا من القطاعات. قبل عام 2020، نادرا ما تجاوز سعر أرصدة نظام التداول 30 يورو للطن.
هناك اقتصادات كبيرة أخرى تتطلع إلى أن تحذو حذو أوروبا. في وقت سابق من هذا العام، أنشأت الصين أكبر سوق للكربون في العالم تغطي نحو 30 في المائة من إجمالي انبعاثاتها. وهناك عدد قليل من الولايات الأمريكية، بما في ذلك كاليفورنيا، لديها أيضا خطط للتداول، بينما أطلقت المملكة المتحدة بعد بريكست في مايو نظام تداول خاصا بها. ارتفع السعر في المملكة المتحدة فوق سعر الاتحاد الأوروبي، حيث بلغ أكثر من 50 جنيها للطن.
يقول مايكل بوليت، أستاذ اقتصادات الأعمال في جامعة كامبريدج: “وصلنا إلى النقطة التي لا يمكن فيها إخفاء تكاليف إزالة الكربون”. يقول بوليت الذي يدعم توسيع النظام كطريقة “للمساعدة بشكل ضخم على زيادة مصداقية سياسة الصفر الصافي”: “السبب في أن كثيرا من الناس يشعرون بالقلق حول نظام تداول الانبعاثات هو أنه يجعل هذه التكلفة صريحة، فهي سعر مباشر يوضع على التلويث”.
إصلاح نظام تداول الانبعاثات التابع للمفوضية سيشمل عددا من العناصر المهمة بما في ذلك الإلغاء التدريجي للأذون المجانية لقطاعات مثل الطيران التي كانت سمة من سمات النظام لعقود. ستدرج بروكسل أيضا صناعات الشحن البحري والصناعات البحرية في النظام للمرة الأولى، وهي عناصر يرجح لها أن تساعد على رفع تكلفة التلوث على المدى القريب.
سيلعب نظام تداول الانبعاثات دورا مركزيا في استراتيجية الاتحاد الأوروبي متعددة الجوانب لخفض الانبعاثات بشكل عجيب. فلسفة الصفقة الخضراء لبروكسل تجمع بين استخدام أدوات مثل سوق الكربون مع أدوات تشريعية أكثر تشددا مثل فرض معايير ملزمة على انبعاثات السيارات، وأهداف أعلى للطاقة المتجددة، وخطط لتشجيع استثمار القطاع الخاص في التكنولوجيات الخضراء.
يصف مسؤول كبير في الاتحاد الأوروبي استخدام تسعير الكربون باعتباره الحد الأدنى من شبكة الأمان لفرض ضرائب على ثاني أكسيد الكربون، لكن ليس ترياقا في السعي لإزالة الكربون من الاقتصاد الأوروبي.
استخدام إيرادات نظام تداول الانبعاثات
حذر نشطاء حماية البيئة من المبالغة في زيادة أسعار الكربون وجعل النظام يتحمل عبء الوصول إلى أهداف الانبعاثات. فهم يخشون أن التغييرات النظامية اللازمة للتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، وتوسيع توافر المركبات الكهربائية وإزالة الكربون من الصناعة الثقيلة لا يمكن تحقيقها إلا من خلال قوانين تنظيمية.
تقول صوفي ديفور، مديرة المناخ في مجموعة حملات النقل النظيفة “النقل والبيئة”: “يمكن أن تكون الصفقة الخضراء من الاتحاد الأوروبي مثالا للعالم على كيفية القيام بعملية انتقال سريعة وعادلة، لكن فقط إذا استخدمت الأدوات المناسبة. يجب أن يأتي العبء الثقيل من أشياء مثل السيارات الخالية من الانبعاثات، والكهربة السريعة، وبناء شبكة شحن على من الطراز العالمي”.
تقدر دراسة من “كامبريدج إيكونوميكس” أن تمديد تسعير الكربون إلى السيارات والمنازل سيؤدي إلى ارتفاع أذون نظام تداول الانبعاثات إلى 180 يورو للطن بحلول عام 2030. وتقول نمذجة التقرير: إن تكلفة التدفئة بالغاز للأسر الفرنسية ستتضاعف تقريبا خلال العقد المقبل، وترتفع بنسبة 188 في المائة للمنازل التي تستخدم الفحم للتدفئة في بولندا.
في ظل مثل هذا السيناريو، يحذر التقرير من أن الضربة التي تلحق باقتصاد الاتحاد الأوروبي لا يمكن تخفيفها إلا إذا أعيد تدوير جميع إيرادات نظام تداول الانبعاثات لتعويض الأسر الضعيفة وتمويل الاستثمار في تكنولوجيات أنظف.
ومع ذلك، تتمتع بروكسل بصلاحيات محدودة لإجبار حكوماتها على تقديم إعانات أو إعفاءات ضريبية عامة للمواطنين الذين يتعين عليهم دفع الثمن. يتم تقاسم عائدات نظام تداول الانبعاثات بين 27 حكومة في الاتحاد الأوروبي تحصل على الجزء الأكبر من الأموال من النظام، مع صناديق أصغر مصممة لمساعدة الدول الأعضاء ذات الدخل المنخفض على تمويل التكنولوجيا المتجددة.
الدول الأعضاء في أوروبا تحمي بشدة الأموال التي تستردها وتقاوم منذ الآن خطة بروكسل لاستخدام جزء من عائدات نظام التداول لسداد مئات المليارات من سندات الاتحاد الأوروبي المشتركة الصادرة لتمويل التعافي من كوفيد – 19. يقول أحد مسؤولي الاتحاد الأوروبي: “هناك كثير من الزبائن الذين يحصلون على أموال نظام التداول وكلهم تقريبا سينتهي بهم الأمر بالحصول على أقل مما يريدون”.
بالنسبة لبوبينجر من اتحاد المستهلكين في ألمانيا لا يمكن أن تحدث خطوة أوروبا نحو التسعير الشامل للكربون دون نقاشات جادة في بروكسل والعواصم الأوروبية حول كيفية تقديم تعويض مباشر للأسر الأكثر تضررا.
يقول بوبينجر: “تختلف أنظمة الرعاية الاجتماعية وآليات الدعم الاجتماعي اختلافا كبيرا في أوروبا. على عكس الولايات المتحدة لا يستطيع الاتحاد الأوروبي تسليم شيكات التحفيز المباشر. ليس من العدل أن نقول إن بإمكان الأفراد حل مشكلة تغير المناخ من خلال تغيير سلوكهم”.
يحذر بوليت من جامعة كامبريدج رغم أنه يمكن حماية أفقر الناس من خلال تدخل الدولة، إلا أن الأسر الأفضل حالا ستضطر في النهاية إلى الدفع أو تغيير عاداتها. يقول: “تحقيق الصفر الصافي في جدول زمني مدته 30 عاما هو تحول تاريخي ويجب على السياسيين التوقف عن التظاهر بإمكانية القيام بذلك مجانا. يمكن للحكومات أن تحاول إعفاء أفقر الفقراء من مجمل التكاليف، لكن على الطبقات الوسطى أن تدفع الثمن مقابل ذلك”.