مع بدء الاقتصاد العالمي في الانتعاش بعد الآثار السلبية لجائحة كورونا، تزداد التوقعات بعودة أسواق المعادن الأساسية إلى طبيعتها في العام المقبل.
هذا التفاؤل الذي يسود حاليا في الأسواق، يدعمه الارتفاع النسبي في أسعار المعادن الأساسية في الأسابيع الماضية، نتيجة عدد من العوامل من بينها التوصل إلى مجموعة من اللقاحات القادرة على مواجهة فيروس كورونا، إضافة إلى تواصل انتعاش الاقتصاد الصيني، ونجاح قمة العشرين التي عقدت في الرياض في الخروج بإجماع على سبل التصدي للوباء، وبدء حزم التحفيز الاقتصادي في الولايات المتحدة التي أقرت خلال فترة الرئيس ترمب في الإتيان بنتائجها الإيجابية.
كما ساد التفاؤل خلال الأيام الماضية بشأن إمكانية توصل الاتحاد الأوروبي وبريطانيا إلى صفقة تجارية في مرحلة ما بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وذلك بعد تمديد المفاوضات بين الطرفين إلى ما بعد الموعد النهائي للخروج البريطاني.
تلك التطورات انعكست على تراكم المضاربات على المعادن الأساسية الصناعية خاصة النحاس والنيكل، على أمل أن تؤدي لقاحات فيروس كورونا وبرامج التحفيز إلى طفرة في النشاط الصناعي العالمي في العام المقبل.
وتشير الأرقام إلى أن أسعار النحاس ارتفعت إلى أعلى مستوى لها في عامين ونصف العام، كما أن التقييم العام يشير إلى أن خام الحديد – المكون الرئيس للصلب – كان أحد أفضل الأصول أداء خلال هذا العام رغم جائحة كورونا، وفي نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي زادت أسعار كل من الألومنيوم والزنك بما يقرب 15 و40 في المائة على التوالي أو أكثر منذ منتصف أيار (مايو)، وذلك كله بفضل استعادة الاقتصاد الصيني لنشاطه. وانعكس هذا التحسن في أسعار المعادن الأساسية على قيمة سهم عدد من كبرى شركات المعادن في العالم.
وقال لـ«الاقتصادية»، آدم سونتونيشير الخبير المالي في بورصة لندن، إن المعادن الصناعية هي اللبنات الأساسية للصناعة وعمليات البناء وأسعارها حساسة بشكل خاص لنشاط التصنيع في الصين، لكون الطلب المحلي الصيني يمثل ما يقرب من نصف الطلب العالمي على عدد من المعادن الأساسية أبرزها النحاس.
وأضاف أن التعافي الاقتصادي للصين انعكس على الأسعار، وبدت الأسواق متفائلة باحتمال تراجع التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين في أعقاب خسارة الرئيس ترمب لمنصب الرئاسة الأمريكية، وحتى إذا استمرت تلك التوترات في العام المقبل، فإن المؤشرات جميعا تشير إلى أنها لن تطول النحاس والنيكل والزنك.
وأشار إلى أن الولايات المتحدة تتمتع بالاكتفاء الذاتي بشكل متزايد في عديد من المعادن الأساسية بما في ذلك النحاس، وهناك عديد من الدول المنتجة للنيكل في مقدمتها إندونيسيا أكبر منتج للنيكل في العالم ويتوقع أن يبلغ إنتاجها هذا العام 550 ألف طن والفلبين، ولهذا لا يتصور ظهور أي مشكلات تجارية كبيرة بين واشنطن وبكين حول هذه المعادن بحسب سونتونيشير، أما بالنسبة للزنك فالصين تنتج ثلث الإنتاج العالمي، وهناك عديد من الدول الأخرى المنتجة مثل أستراليا وبيرو والولايات المتحدة، وجميعها تنتج كميات كبيرة، وهذا الوضع يخفف التوترات المحتملة بين واشنطن وبكين بشأن الزنك وغيره من المعادن ما يعني أن السوق ربما تشهد حالة من الهدوء والاستقرار التي افتقدها هذا العام.
وأضاف، مع هذا يمكن القول إنه رغم التحسن في أسعار المعادن الأساسية في الفترة الأخيرة، فإن أسعارها حاليا لا تزال أقل بكثير من أعلى مستويات حققتها تاريخيا.
ويتوقع الخبراء أن يختلف الوضع العام المقبل وأن تشهد أسواق المعادن الأساسية عودة فعالة لديناميكيات العرض والطلب إلى مستويات ما قبل وباء كورونا، مع احتمال أن يشهد عام 2021 دعما لجانب الطلب من خلال زيادة الإنفاق من قبل جميع حكومات العالم، خاصة على مشاريع البنية التحتية، ما سيؤدي إلى زيادة أسعار المعادن الأساسية، ويعتقد الخبراء أيضا أن الأسعار ستواصل الارتفاع في عام 2022 أيضا، وإن كان ذلك عند مستويات أكثر اعتدالا.
بدوره، يرى “إل.آر. دين الخبير الاستثماري، أن أسعار المعادن بصفة عامة لا تزال أقل من 5.2 في المائة ما كانت عليه في بداية العام، ويرجح أنه رغم تحسن المستويات السعرية في الربع الأخير من هذا العام من الممكن أن تنخفض الأسعار في المجمل 13 في المائة هذا العام مقارنة بالعام الماضي.
وأوضح لـ«الاقتصادية» أن معدلات انتعاش الاقتصاد العالمي لم تبدأ في الظهور إلا في النصف الثاني من العام وتحديدا في أواخر الربع الثالث، وأن تداعيات وباء كورونا والموجة الثانية من الوباء التي ضربت أوروبا تحديدا دفعت الحكومات إلى إعادة فرض تدابير صارمة قد تعيق الطلب على المعادن الأساسية.
وتابع أن تدابير التحفيز الاقتصادي في الصين والولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وعلى الرغم من أنها أسهمت نسبيا في زيادة الطلب إلا أنها لا تزال أقل فاعلية مما كان متوقعا، لأنها تتضمن الاستثمار في بنية تحتية جديدة مثل شبكات G5 ومحطات شحن السيارات الكهربائية، وعادة تكون تلك أقل كثافة في استخدام المعادن مقارنة بالبنية التحتية التقليدية التي تتضمن قضبان السكك الحديدية والجسور.
مع هذا يرى بعض الخبراء أن الصين ستقود موجة الشراء خلال الربع الأخير من هذا العام حتى الربع الثاني من العام المقبل، وعلى سبيل المثال بلغ صافي واردات النحاس المكرر في الصين مستويات قياسية هذا العام، وقدر بـ4.4 مليون طن متري آخذة في التزايد، كما أن تباشير الانتعاش بدأت تدب في شركات النحاس في الولايات المتحدة مرة أخرى، وهو ما يظهر جليا في قيامها بسداد ما عليها من ديون وزيادة أرباح الأسهم المدفوعة للمساهمين، وضخ مزيد من التدفقات النقدية للاستثمار في المناجم.
من جانبه، قال آرثر جوردن الخبير في تجارة المعادن وأحد المضاربين في بورصة لندن، هذا العام الطلب على المعادن الأساسية ومن ثم الأسعار لم يكونا إيجابيين في النصف الأول من العام، لكن مع تحسن الأوضاع الاقتصادية خاصة منذ تشرين الثاني (نوفمبر)، وإنتاج عدد من اللقاحات لمكافحة فيروس كورونا، بدأت الأوضاع في التحسن، مدفوعة في ذلك بالتخزين الاستراتيجي للحكومات للمعادن الأساسية خاصة من قبل الحكومة الصينية وأدى ذلك لزيادة الطلب”.
واستدرك، أن ضعف الدولار في بعض الأوقات جعل المعادن الأساسية أرخص ثمنا لأصحاب العملات الأخرى، ولعب اضطراب الإمدادات من أمريكا اللاتينية دورا بارزا في تحسين الأسعار، فالزيادة التي شهدها النحاس والزنك تعود في جزء منها لإغلاق المناجم في بيرو ثاني أكبر منتج في العالم لكلا المعدنين.
وأضاف، بالفعل انخفض إنتاج بيرو من الزنك 86 في المائة وتراجع إنتاج النحاس 35 في المائة، في النصف الأول من العام، وعلى الرغم من بدء إعادة فتح مناجم بيرو، إلا أن مخاوف الإمداد لا تزال مرتفعة، بسبب احتمال توقف الإنتاج إذا لم تحقق اللقاحات المضادة لفيروس كورونا النتائج المطلوبة.
وتابع حتى تشيلي أكبر منتج للنحاس في العالم وعلى الرغم من صمود إمدادات النحاس القادمة منها لكون الحجر الصحي وقيود الحركة كانت أقل صرامة، فإن الضغوط العمالية المطالبة بمزيد من الشفافية حول الوضع الصحي في البلاد، أوجد حالة من القلق في السوق العالمي، لاحتمال تقلص الإنتاج العالمي من النحاس في أي وقت وبصورة مفاجئة وحادة.
على أي حال تبدو النظرة المستقبلية للمعادن الأساسية أكثر إشراقا مع نهاية عام 2020، جزء من هذا التفاؤل يعود أيضا إلى الدفعة العالمية للطاقة المتجددة والتعهدات الصادرة عن عديد من الحكومات بهذا الشأن خلال هذا العام، فجزء كبير من مشاريع الطاقة المتجددة مثل توربينات الرياح تعد كثيفة الاستخدام للنحاس والمعادن الأخرى.
مع هذا يبقى السؤال المطروح ما الأسعار المتوقعة لمجموعة المعادن الأساسية الرئيسة.
هنا تتوقع أوليفيا ريتشارد مديرة إدارة السلع والأصول في مجموعة أل بي الاستثمارية، بأن يتم تداول الزنك عند حدود 2628 دولارا للطن العام المقبل، بزيادة 17 في المائة عن متوسط سعر الطن هذا العام، الذي بلغ 2246 دولارا.
وتعتقد ريتشارد أن الزنك سيواصل الارتفاع عام 2022 إلى 2857 بزيادة 8.7 في المائة عن عام 2021.
أما النيكل فسيصل إلى 15557 دولارا للطن بزيادة قدرها 14.5 في المائة عن متوسط العام الجاري والبالغ 13582، وفي عام 2022 يرجح أن يبلغ سعر الطن 16190 دولارا بزيادة 4.1 في المائة عن عام 2021.
وحول أسعار الألمنيوم، أوضحت أن “الأسعار تحوم حاليا حول أعلى مستوى لها في 18 شهرا، بسبب مراهنات المستثمرين على الطلب الصيني القوي، وأغلب التقديرات ترجح أن يصل سعر الطن العام المقبل 1912 دولارا للطن، بزيادة 12.8 في المائة عن المتوسط الحالي هذا العام والبالغ 1695، وسيواصل أيضا الارتفاع في عام 2022 إلى 2013 دولارا بزيادة قدرها 5.3 في المائة”
مع هذا يتخلف الألومنيوم وراء معادن أخرى، لأن هناك تخمة كبيرة في الأسواق نتيجة تراكم الإنتاج في المستودعات، لأن مصاهر الألومنيوم على المستوى العالمي كانت بطيئة في خفض الإنتاج، ولم تستطع الاستجابة سريعا لانخفاض الطلب
وبالنسبة للنحاس الذي يعد المعدن الصناعي الأكثر تداولا وشيوعا فقد ارتفعت العقود الآجلة منذ بداية الشهر 2 في المائة ليصل إلى أعلى مستوى لها منذ حزيران (يونيو) 2018، وفي الواقع فإن أسعار النحاس مرتبطة ارتباطا وثيقا بالاقتصاد الصيني، ولهذا يتفوق حاليا على كثير من السلع الأخرى، ويعتقد كثير من الخبراء أن ارتفاع أسعار النحاس في الوقت الراهن دليل على ثقة المستثمرين بأن الاقتصاد الصيني سيواصل النمو العام المقبل.
ويقدر متوسط سعر طن النحاس هذا العام بنحو 6095 دولارا للطن، ويتوقع أن يزيد 9.2 في المائة العام المقبل ليصل إلى 6654 دولارا للطن، وأن يواصل الارتفاع في العام التالي 6.3 في المائة ويصل إلى 7070 دولارا للطن.
بينما يرجح أن يحدث تحسن طفيف في سعر معدن الرصاص العام المقبل ولن تتجاوز الزيادة السعرية نسبة 1.7 في المائة ليقفز من 1814 دولارا للطن في المتوسط هذا العام إلى 1845 دولارا للطن، على أن يشهد تحسنا أفضل في عام 2022 ليصل إلى 1925 دولارا.
إلا أن أوليفيا ريتشارد تشير إلى أن تلك التوقعات تتضمن إمكانية حدوث مزيد من الاضطرابات نتيجة وباء كورونا، واستمرار حالة عدم اليقين بشأن فاعلية اللقاحات المطروحة، أو عودة الفيروس للظهور مجددا عام 2022، كما يتوقع بعض علماء الميكروبات.